بِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ لَمَا فَهِمَ غَيْرَ هَذَا مِنْهَا، وَمَنْ فَهِمَهَا مُجَرَّدَةً غَيْرَ مَحْمُولَةٍ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْكَلَامِ فِي جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْأُمِّ لِلرَّضَاعِ مُطْلَقًا وَعَدَمِهِ وَهِيَ فِي النِّكَاحِ أَوِ الْعِدَّةِ; إِذِ الْمُتَبَادَرُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْأُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا إِرْضَاعُ وَلَدِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، وَيَجِبُ لَهَا ذَلِكَ أَيْضًا - كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا - وَأَنَّ الْمُطَلَّقَاتِ إِذَا كُنَّ وَالِدَاتٍ يَجِبُ أَنْ يُنْفَقَ عَلَيْهِنَّ مُدَّةَ الْإِرْضَاعِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَهُنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ إِمَّا بَائِنَاتٌ - وَلَعَلَّهُ الْأَكْثَرُ لِنُدْرَةِ طَلَاقِ أُمِّ الطِّفْلِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِئْجَارِهِنَّ حِينَئِذٍ - وَإِمَّا مُعْتَدَّاتٌ تَجِبُ لَهُنَّ النَّفَقَةُ لِعَدَمِ خُرُوجِهِنَّ مِنْ عِصْمَةِ النِّكَاحِ، وَقَدِ اسْتَشْكَلُوا اسْتِحْقَاقَ هَؤُلَاءِ الْأُجْرَةَ عَلَى الْإِرْضَاعِ، وَلَا إِشْكَالَ فِي وُجُوبِ الشَّيْءِ بِسَبَبَيْنِ، وَلَا تَكْرَارَ فِي نَصَّيِ الْوُجُوبِ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَاءَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَهُ صُورَةٌ يَنْفَرِدُ بِهَا، إِذِ الْمُعْتَدَّةُ قَدْ تَكُونُ وَالِدَةً وَغَيْرَ وَالِدَةٍ، وَالْمُرْضِعُ تَكُونُ بَائِنَةً وَمُعْتَدَّةً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَشْغُولَةٌ بِمَصْلَحَةِ الرَّجُلِ الْمُطَلِّقِ شَغْلًا يَمْنَعُهَا مِنْ زَوَاجٍ يُغْنِيهَا عَنْ نَفَقَتِهِ; لِأَنَّ الْمُرْضِعَ قَلَّمَا يُرْغَبُ فِيهَا وَقَلَّمَا تَرْغَبُ هِيَ فِي الزَّوَاجِ، ثُمَّ إِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ وَلَدَهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُكَلَّفُونَ مِنَ الرِّجَالِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْإِعْسَارِ وَالْإِيسَارِ بِالنَّفَقَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى اللَّائِقِ بِالْمَرْأَةِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، عَقَّبَ تَعَالَى هَذَا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا) فَسَّرَ بَعْضُهُمُ الْوُسْعَ بِالطَّاقَةِ وَهُوَ غَلَطٌ; لِأَنَّ الْوُسْعَ ضِدُّ الضِّيقِ وَهُوَ مَا تَتَّسِعُ لَهُ الْقُدْرَةُ وَلَا يَبْلُغُ
اسْتِغْرَاقَهَا، وَأَمَّا الطَّاقَةُ فَهِيَ آخِرُ دَرَجَاتِ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَ بَعْدَهَا إِلَّا الْعَجْزُ الْمُطْلَقُ كَأَنَّهَا آخِرُ طَاقَةٍ; أَيْ فَتْلَةٌ مِنَ الطَّاقَاتِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْحَبْلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ التَّوَسُّعُ فِي النَّفَقَةِ مِنَ السَّعَةِ; أَيْ: بِحَيْثُ لَا يَنْتَهِي إِلَى الضِّيقِ. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا الْإِيجَازُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَقَامِ: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (٦٥: ٧) (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ ((لَا تُضَارُّ)) بِالضَّمِّ تَبَعًا لِقَوْلِهِ: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ نَهْيٌ عَنِ الْمُضَارَّةِ صَرِيحٌ، وَالْأَوَّلُ نَهْيٌ فِي الْمَعْنَى خَبَرٌ فِي اللَّفْظِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْكَلَامَ تَفْصِيلٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ سَابِقِهِ وَتَقْرِيبٌ لَهُ إِلَى الْفَهْمِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُفِيدُ - مَعَ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ - حُكْمًا جَدِيدًا عَامًّا، فَمَنْعُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا - وَهِيَ لَهُ أَرْأَمُ، وَبِهِ أَرْأَفُ، وَعَلَيْهِ أَحَنَى وَأَعْطَفُ - إِضْرَارٌ بِهَا بِسَبَبِ وَلَدِهَا، وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ مَعَ الْإِرْضَاعِ إِضْرَارٌ بِهَا بِسَبَبِ وَلَدِهَا، وَامْتِنَاعِهَا هِيَ مِنْ إِرْضَاعِهِ - تَعْجِيزًا لِلْوَالِدِ بِالْتِمَاسِ الظِّئْرِ أَوْ تَكْلِيفِهِ مِنَ النَّفَقَةِ فَوْقَ وُسْعِهِ - إِضْرَارٌ بِهِ بِسَبَبِ وَلَدِهِ; فَالْعِلَّةُ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ مَنْعُ الضِّرَارِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ تَحْرِيمَ كُلِّ مَا يَأْتِي مِنْ أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لِلْإِضْرَارِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute