بِالْآخَرِ; كَأَنْ تُقَصِّرَ هِيَ فِي تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ الْبَدَنِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ لِتَغِيظَ الرَّجُلَ، وَكَأَنْ يَمْنَعَهُ هُوَ مِنْ أُمِّهِ وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ أَوِ الْحَضَانَةِ، فَالْعِبَارَةُ نَهْيٌ عَامٌّ عَنِ الْمُضَارَّةِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَا يُقَيَّدُ وَلَا يُخَصَّصُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ أَوْ حَالٍ دُونَ حَالٍ أَوْ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ. وَكَلِمَةُ (تُضَارَّ) تَحْتَمِلُ الْبِنَاءَ لِلْفَاعِلِ وَالْبِنَاءَ لِلْمَفْعُولِ وَهِيَ لِلْمُشَارَكَةِ، وَإِنَّمَا أُسْنِدَتْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَالِدَيْنِ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ إِضْرَارَهُ بِالْآخَرِ بِسَبَبِ الْوَلَدِ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ضُرَّ الْوَلَدِ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَكَيْفَ تَحْسُنُ تَرْبِيَةُ وَلَدٍ بَيْنَ أَبَوَيْنِ هَمُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِيذَاءُ الْآخَرِ وَضَرَرُهُ بِهِ؟ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُضَارَّةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْوَالِدَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) فَمَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وَمَا بَيْنَهُمَا مُعْتَرِضٌ لِلتَّعْلِيلِ أَوِ التَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ أَفَادَ حُكْمًا جَدِيدًا. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَارِثِ هَلْ هُوَ وَارِثُ الْمَوْلُودِ لَهُ; أَيِ: الْأَبُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، أَوْ وَارِثُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ؟ وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ وَارِثُ الْأَبِ هَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِعُصْبَتِهِ، أَوْ بِالْوَلَدِ نَفْسِهِ؟ أَيْ إِنَّ نَفَقَةَ إِرْضَاعِهِ تَكُونُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا فَهِيَ عَلَى عُصْبَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَارِثِ وَارِثُ الصَّبِيِّ مِنَ الْوَالِدَيْنِ، أَيْ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ إِرْضَاعِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وَكُلٌّ يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَصِحُّ تَنَاوُلُهُ إِيَّاهُ.
(فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) الْفِصَالُ: الْفِطَامُ; لِأَنَّهُ يَفْصِلُ الْوَلَدَ عَنْ أُمِّهِ وَيَفْصِلُهَا عَنْهُ فَيَكُونُ مُسْتَقِلًّا فِي غِذَائِهِ دُونَهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَحْدِيدِ مُدَّةِ الرَّضَاعَةِ وَكَوْنِ الْحَقِّ فِيهَا لِلْوَالِدَةِ، وَكَوْنِهَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مُطَلَّقَةً، كُلُّ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضِّرَارِ وَتَقْرِيرِ الْمَصْلَحَةِ لَا لِلتَّعَبُّدِ، كَانَ لِلْوَالِدَيْنِ صَاحِبَيِ الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ فِي الْوَلَدِ وَالْغَيْرَةِ الصَّحِيحَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْطِمَاهُ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا إِذَا اتَّفَقَ رَأْيُهُمَا عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ التَّشَاوُرِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَكُونَانِ رَاضِيَيْنِ غَيْرَ مُضَارَّيْنِ بِهِ. وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ يُرْشِدُنَا إِلَى الْمُشَاوَرَةِ فِي أَدْنَى أَعْمَالِ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَلَا يُبِيحُ لِأَحَدِ وَالِدَيْهِ الِاسْتِبْدَادَ بِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ فَهَلْ يُبِيحُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ فِي الْأُمَّةِ كُلِّهَا وَأَمْرِ تَرْبِيَتِهَا وَإِقَامَةُ الْعَدْلِ فِيهَا أَعْسَرُ وَرَحْمَةُ الْأُمَرَاءِ أَوِ الْمُلُوكِ دُونَ رَحْمَةِ الْوَالِدَيْنِ بِالْوَلَدِ وَأَنْقَصُ؟ !
وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَحْتَمِلُ الْفِصَالُ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ إِيقَاعُ الْمُفَاصَلَةِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْوَلَدِ; أَيْ بِأَنْ تَرْضَى هِيَ بِضَمِّهِ إِلَى أَبِيهِ يَسْتَأْجِرُ لَهُ ظِئْرًا تُرْضِعُهُ وَيَرْضَى هُوَ بِذَلِكَ لَا يُضَارُّ بِهِ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ مُنَاسِبَةِ الْحُكْمِ بِأَنَّ الْحُقُوقَ وَالْوَاجِبَاتِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْوَلَدِ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ وَالِدَيْهِ، وَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي تَقْرِيرِ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّرَاضِي مَعَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ، أَوْ مُنَاسَبَةِ جَوَازِ فَصْلِ الطِّفْلِ عَنْ أُمِّهِ بِرِضَاهَا، ذَكَرَ حُكْمَ الْمُسْتَرْضِعَاتِ وَهُنَّ الْأَظْآرُ اللَّوَاتِي يُرْضِعْنَ بِالْأُجْرَةِ فَقَالَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute