(وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ) يُقَالُ: اسْتَرْضَعْتُ الْمَرْأَةَ الطِّفْلَ إِذَا اتَّخَذْتَهَا مُرْضِعًا لَهُ، وَيَحْذِفُونَ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِ فَيَقُولُونَ: اسْتَرْضَعْتُ الطِّفْلَ كَمَا يَقُولُونَ: اسْتَنْجَحْتُ الْحَاجَةَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مَنِ اسْتُنْجِحَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمُ الْمَرَاضِعَ الْأَجْنَبِيَّاتِ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) قَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: أَيْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ مِنْ إِرَادَةِ الِاسْتِرْضَاعِ، أَيْ سَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَرَضِيَ، بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ عَنِ اتِّفَاقٍ مِنْهُمَا وَقَصْدِ خَيْرٍ، وَإِرَادَةِ مَعْرُوفٍ مِنَ الْأَمْرِ، فَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْوَالِدَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ كَذَا فِي فَتْحِ الْبَيَانِ. أَوْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا أَرَدْتُمْ إِيتَاءَهُ الْمَرَاضِعَ مِنَ الْأُجُورِ بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ بِالْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ الْمُسْتَحْسَنِ شَرْعًا وَعَادَةً.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِهِ إِعْطَاءُ الْأُجْرَةِ الْمُتَعَارَفَةِ وَهِيَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ أَجْرَ الْمِثْلِ، وَفِي هَذَا الشَّرْطِ مَصْلَحَةُ الْمُرْضِعِ وَمَصْلَحَةُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ; لِأَنَّ الْمُرْضِعَ إِذَا لَمْ تُعَامَلِ الْمُعَامَلَةَ الْحَسَنَةَ الْمُرْضِيَّةَ بِأَخْذِ أَجْرِهَا تَامًّا لَا تَهْتَمُّ بِمُرَاعَاةِ الطِّفْلِ وَلَا تُعْنَى بِإِرْضَاعِهِ فِي الْمَوَاقِيتِ الْمَطْلُوبَةِ وَبِنَظَافَتِهِ وَسَائِرِ شَأْنِهِ، وَإِذَا أُوذِيَتْ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا فَيَكُونُ ضَارًّا بِالطِّفْلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ مُؤَيِّدٌ وَمُوَافِقٌ لِمَا عُلِمَ مِنْ كَوْنِ الْأُمِّ أَحَقَّ بِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي لَا يُعَارِضُهُ; لِأَنَّ الْخِطَابَ فِيهِ يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ جَمِيعًا، وَالسُّكُوتُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَهُوَ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَانِعٌ مَنَعَ الْأُمَّ مِنَ الْإِرْضَاعِ كَمَرَضٍ أَوْ حَبَلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ ((أَتَيْتُمْ)) مَقْصُورَةَ الْأَلْفِ مِنْ أَتَى إِلَيْهِ إِحْسَانًا إِذَا فَعَلَهُ، وَرَوَى شَيْبَانُ عَنْ عَاصِمٍ ((أُوتِيتُمْ)) أَيْ: آتَاكُمُ اللهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَالْمُرَادُ الْأُجْرَةُ، كَذَا قَالُوا; وَالْأَقْرَبُ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا سَلَّمْتُمُ الْمَرَاضِعَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْوَلَدِ بِالْمَعْرُوفِ، بِأَنْ يَتَّفِقَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا إِنِ اسْتَقَلَّ بِالْوَلَدِ مَعَ الْمُرْضِعِ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ الْوَلَدَ لِإِرْضَاعِهِ بِطَرِيقَةٍ مَعْرُوفَةٍ شَرْعًا وَعَادَةٍ مُرْضِيَّةٍ لَهُمَا وَلَهَا.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِمَا يَبْعَثُ عَلَى الْتِزَامِ أَحْكَامِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَقَالَ: (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أَيِ: الْتَزِمُوا مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ مَعَ تَوَخِّي
حِكْمَةِ كُلٍّ مِنْهَا، وَاتَّقُوا اللهَ فِي ذَلِكَ فَلَا تُفَرِّطُوا فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَاعْلَمُوا عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ فِي هَذَا كُلِّهِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ يُحْصِي لَكُمْ عَمَلَكُمْ وَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَا قُمْتُمْ بِحُقُوقِ الْأَطْفَالِ بِالتَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرِ وَاجْتِنَابِ الْمُضَارَّةِ جَعَلَهُمْ قُرَّةَ أَعْيُنٍ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبًا لِلْمَثُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنِ اتَّبَعْتُمْ أَهْوَاءَكُمْ وَعَمَدَ الْوَالِدُ إِلَى مُضَارَّةِ الْوَالِدَةِ بِهِ وَعَمَدَتْ هِيَ إِلَى ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ بَلَاءً وَفِتْنَةً لَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَكَانَا بِعَمَلِهِمَا السَّيِّئِ فِي أَنْفُسِهِمَا وَوَلَدِهِمَا مُسْتَحِقَّيْنِ لِعَذَابِ الْآخِرَةِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ بِإِرْضَاعِ الْأُمَّهَاتِ أَوْلَادَهُنَّ عَلَى مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، فَأَفْضَلُ اللَّبَنِ لِلْوَلَدِ لَبَنُ أُمِّهِ بِاتِّفَاقِ الْأَطِبَّاءِ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَوَّنَ مِنْ دَمِهَا فِي أَحْشَائِهَا، فَلَمَّا بَرَزَ إِلَى الْوُجُودِ تَحَوَّلَ اللَّبَنُ الَّذِي كَانَ يَتَغَذَّى مِنْهُ الرَّحِمُ إِلَى لَبَنٍ يَتَغَذَّى مِنْهُ فِي خَارِجِهِ، فَهُوَ اللَّبَنُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute