(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) .
كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ أَحْكَامًا بَعْضُهَا فِي الْعِبَادَاتِ، وَبَعْضُهَا فِي الْحُدُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، آخِرُهَا مُعَامَلَةُ الْأَزْوَاجِ، وَرَأَيْنَا مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يَخْتِمَ كُلَّ حُكْمٍ أَوْ عِدَّةِ أَحْكَامٍ بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَالْأَمْرِ بِتَقْوَاهُ، وَالتَّذْكِيرِ بِعِلْمِهِ بِحَالِ الْعَبْدِ وَبِمَا أَعَدَّ لَهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، وَفِي هَذَا مَا فِيهِ مِنْ نَفْخِ رُوحِ الدِّينِ فِي الْأَعْمَالِ وَإِشْرَابِهَا
حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّذْكِيرَ الْقَوْلِيَّ بِمَا يَبْعَثُ عَلَى إِقَامَةِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِهَا قَدْ يَغْفُلُ الْمَرْءُ عَنْ تَدَبُّرِهِ، وَيَغِيبُ عَنِ الذِّهْنِ تَذَكُّرُهُ، بِانْهِمَاكِ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَاشْتِغَالِهِمْ بِمَا يُكَافِحُونَ مِنْ شَدَائِدِ الدُّنْيَا، أَوْ مَا يَلَذُّ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلِهَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الْمُكَافَحَاتِ، وَالْفُنُونِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ سُلْطَانٌ قَاهِرٌ عَلَى النَّفْسِ، وَحَاكِمٌ مُسَخِّرٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ، يَنْتَكِبُ بِالْمَرْءِ سَبِيلَ الْهُدَى، حَتَّى تَتَفَرَّقَ بِهِ سُبُلُ الْهَوَى، فَمِنْ ثَمَّ كَانَ الْمُكَلَّفُ مُحْتَاجًا فِي تَأْدِيبِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، إِلَى مُذَكِّرٍ يُذَكِّرُهُ بِمَكَانَتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ كَمَالُ حَقِيقَتِهِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهَذَا الْمُذَكِّرُ هُوَ الصَّلَاةُ، فَهِيَ الَّتِي تَخْلَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ تِلْكَ الشَّوَاغِلِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، وَتُوَجِّهُهُ إِلَى رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَتُكَثِّرُ لَهُ مُرَاقَبَتَهُ، حَتَّى تَعْلُوَ بِذَلِكَ هِمَّتُهُ، وَتَزْكُوَ نَفْسُهُ، فَتَتَرَفَّعَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَتَتَنَزَّهَ عَنْ دَنَاءَةِ الْفِسْقِ وَالْعِصْيَانِ، وَيُحَبَّبَ إِلَيْهَا الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، بَلْ تَرْتَقِيَ فِي مَعَارِجِ الْفَضْلِ إِلَى مُسْتَوَى الِامْتِنَانِ فَتَكُونُ جَدِيرَةً بِإِقَامَةِ تِلْكَ الْحُدُودِ، وَزِيَادَةِ مَا يُحِبُّ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى بِإِقَامَتِهَا عَلَى وَجْهِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللهِ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ جَمِيعِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَأَكْبَرُ، فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ قَدْ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، فَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ الْمُصَلِّينَ، إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّلَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ مُحَافِظِينَ.
لِهَذَا قَالَ:
(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي وَجْهِ اخْتِيَارِ لَفْظِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحِفْظِ: إِنَّ الصِّيغَةَ عَلَى أَصْلِهَا تُفِيدُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْحِفْظِ وَهِيَ هُنَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: احْفَظِ الصَّلَاةَ يَحْفَظْكَ اللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَا، كَقَوْلِهِ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute