الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ يُعَظِّمُ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَيَحْتَقِرُ الْبَاطِلَ وَجُنْدَهُ، فَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِأُمَّتِهِ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَلَا يَغْتَرُّ بِأَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ.
الْمُحَافِظُ عَلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا تُجْزِعُهُ النَّوَائِبُ، وَلَا تَفُلُّ غِرَارَ عَزْمِهِ الْمَصَائِبُ، وَلَا تُبْطِرُهُ النِّعَمُ، وَلَا تَقْطَعُ رَجَاءَهُ النِّقَمُ، وَلَا تَعْبَثُ بِهِ الْخُرَافَاتُ وَالْأَوْهَامُ، وَلَا تَطِيرُ بِهِ رِيَاحُ الْأَمَانِيِّ وَالْأَحْلَامِ، فَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ الَّذِي يُؤْمَنُ شَرُّهُ، وَيُرْجَى فِي النَّاسِ خَيْرُهُ، وَلَوْ أَنَّ فِينَا طَائِفَةً مِنَ الْمُصَلِّينَ الْخَاشِعِينَ لَأَقَمْنَا بِهِمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمَارِقِينَ وَالْمُرْتَابِينَ.
وَلَكِنَّ الْمُحَافِظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى مَعَ الْقُنُوتِ وَالْخُشُوعِ قَدْ صَارَ أَنْدَرَ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، وَمَنْ عَرَفَهُ لَا يُصَدِّقُ أَنَّ لِلصَّلَاةِ يَدًا فِي آدَابِهِ الْعَالِيَةِ، وَاسْتِقَامَتِهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَكَأَنِّي بِبَعْضِ الْقَارِئِينَ لِمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ مَلُّوا مِنْهُ، وَرَمَوُا الْكَاتِبَ بِالْغُلُوِّ فِيهِ: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) (٤٧: ٢٤، ٢٥) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) أَيْ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ فِيهَا قَانِتِينَ مُجْتَمِعِينَ فَيَفْتِنَكُمُ الْأَعْدَاءُ بِهُجُومِهِمْ عَلَيْكُمْ، أَوْ إِنْ خِفْتُمْ أَيَّ خَطَرٍ أَوْ ضَرَرٍ مِنْ قِيَامِكُمْ قَانِتِينَ فَصَلُّوا كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَكُمْ رَاجِلِينَ أَوْ رَاكِبِينَ، فَالرِّجَالُ جَمْعُ رَاجِلٍ وَهُوَ الْمَاشِي، وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: هَذَا تَأْكِيدٌ لِلْمُحَافَظَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ حَالَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْعِرْضِ، أَوِ الْمَالِ هُوَ مَظِنَّةُ الْعُذْرِ فِي التَّرْكِ، كَمَا يَكُونُ السَّفَرُ عُذْرًا فِي تَرْكِ الصِّيَامِ، وَكَالْأَعْذَارِ الْكَثِيرَةِ لِتَرْكِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَاسْتِبْدَالِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِهَا، وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ سُقُوطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ أَنَّهَا عَمَلٌ قَلْبِيٌّ، وَإِنَّمَا فُرِضَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لِأَنَّهَا مُسَاعِدَةٌ عَلَى الْعَمَلِ الْقَلْبِيِّ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ، وَهُوَ تَذَكُّرُ سُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى الْمُسْتَوْلِي عَلَيْنَا وَعَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَمِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ إِذَا أَرَادَ عَمَلًا قَلْبِيًّا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ، وَيَصِحُّ فِيهِ
تَوَجُّهُ النَّفْسِ، وَحُضُورُ الْقَلْبِ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ الَّتِي اخْتَارَهَا اللهُ تَعَالَى لِلصَّلَاةِ هِيَ أَفْضَلُ مُعِينٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ سُلْطَانِهِ، وَتَذَكُّرِ كَرَمِهِ، وَإِحْسَانِهِ، فَإِنَّ قَوْلَكَ: ((اللهُ أَكْبَرُ)) فِي فَاتِحَةِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الِانْتِقَالِ فِيهَا مِنْ عَمَلٍ إِلَى عَمَلٍ يُعْطِيكَ مِنَ الشُّعُورِ بِكَوْنِ اللهِ أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَشْغَلُ بِهِ نَفْسَكَ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهِ هَمَّكَ مَا يَغْمُرُ رُوحَكَ، وَيَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِكَ وَإِرَادَتِكَ. وَفِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مِنَ الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَذَكُّرِ رَحْمَتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَمُعَاهَدَتِهِ عَلَى اخْتِصَاصِكَ إِيَّاهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَمِنْ دُعَائِهِ: لِأَنْ يَهْدِيَكَ صِرَاطَهُ الَّذِي اسْتَقَامَ عَلَيْهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّةُ النِّعْمَةِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مَا فِيهَا مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِهَا. وَكُلُّ مَا تَقْرَؤُهُ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لَهُ فِي النَّفْسِ آثَارٌ مَحْمُودَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَالْعِبَرِ الْعَظِيمَةِ، وَالْهِدَايَةِ الْقَوِيمَةِ. وَانْحِنَاؤُكَ لِلرُّكُوعِ وَلِلسُّجُودِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَوِّي فِي النَّفْسِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute