للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَاتُوا; لِأَنَّ أَمْرَ التَّكْوِينِ عِبَارَةٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ، وَلِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: (ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَوْمِ لَا فِي أَفْرَادٍ لَهُمْ خُصُوصِيَّةٌ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ الَّتِي تَجْبُنَ فَلَا تُدَافِعُ الْعَادِينَ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ مَعْرُوفٌ، فَمَعْنَى مَوْتِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ هُوَ أَنَّ الْعَدُوَّ نَكَّلَ بِهِمْ فَأَفْنَى قُوَّتَهُمْ، وَأَزَالَ اسْتِقْلَالَ أُمَّتِهِمْ، حَتَّى صَارَتْ لَا تُعَدُّ أُمَّةً، بِأَنْ تَفَرَّقَ شَمْلُهَا، وَذَهَبَتْ جَامِعَتُهَا، فَكُلُّ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَفْرَادِهَا خَاضِعِينَ لِلْغَالِبِينَ ضَائِعِينَ فِيهِمْ، مُدْغَمِينَ فِي غِمَارِهِمْ، لَا وُجُودَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُمْ تَابِعٌ لِوُجُودِ غَيْرِهِمْ، وَمَعْنَى حَيَاتِهِمْ هُوَ عَوْدُ الِاسْتِقْلَالِ إِلَيْهِمْ; ذَلِكَ أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَلَاءِ يُصِيبُ النَّاسَ، أَنَّهُ يَكُونُ تَأْدِيبًا لَهُمْ، وَمُطَهِّرًا لِنُفُوسِهِمْ مِمَّا عَرَضَ لَهَا مِنْ دَنَسِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، أَشْعَرَ اللهُ أُولَئِكَ الْقَوْمَ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْجُبْنِ وَالْخَوْفِ وَالْفَشَلِ وَالتَّخَاذُلِ بِمَا أَذَاقَهُمْ مِنْ مَرَارَتِهَا، فَجَمَعُوا كَلِمَتَهُمْ، وَوَثَّقُوا رَابِطَتَهُمْ، حَتَّى عَادَتْ لَهُمْ وَحْدَتُهُمْ قَوِيَّةً فَاعْتَزُّوا وَكَثُرُوا إِلَى أَنْ خَرَجُوا مِنْ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا إِلَى عِزِّ الِاسْتِقْلَالِ، فَهَذَا مَعْنَى حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، يَمُوتُ قَوْمٌ مِنْهُمْ بِاحْتِمَالِ الظُّلْمِ، وَيَذِلُّ الْآخَرُونَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ، إِذْ لَا تَصْدُرُ عَنْهُمْ أَعْمَالُ الْأُمَمِ الْحَيَّةِ، مِنْ حِفْظِ سِيَاجِ الْوَحْدَةِ، وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ، بِتَكَافُلِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ وَمَنَعَتِهِمْ

فَيَعْتَبِرُ الْبَاقُونَ فَيَنْهَضُونَ إِلَى تَدَارُكِ مَا فَاتَ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ آتٍ، وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ فِعْلِ عَدُوِّهِمْ بِهِمْ كَيْفَ يَدْفَعُونَهُ عَنْهُمْ، قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: ((إِنَّ بَقِيَّةَ السَّيْفِ هِيَ الْبَاقِيَةُ ; أَيِ: الَّتِي يَحْيَا بِهَا أُولَئِكَ الْمَيِّتُونَ، فَالْمَوْتُ وَالْإِحْيَاءُ وَاقِعَانِ عَلَى الْقَوْمِ فِي مَجْمُوعِهِمْ عَلَى مَا عَهِدْنَا فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ، إِذْ خَاطَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ تَنْزِيلِهِ بِمَا كَانَ مِنْ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) (٢: ٤٩) وَقَوْلِهِ: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) (٢: ٥٦) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْحِكْمَةَ فِي هَذَا الْخِطَابِ تَقْرِيرُ مَعْنَى وَحْدَةِ الْأُمَّةِ وَتَكَافُلِهَا، وَتَأْثِيرُ سِيرَةِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ حَتَّى كَأَنَّهَا شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ جَمَاعَةٍ مِنْهَا كَعُضْوٍ مِنْهُ، فَإِنِ انْقَطَعَ الْعُضْوُ الْعَامِلُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ مُخَاطَبَةِ الشَّخْصِ بِمَا عَمِلَهُ قَبْلَ قَطْعِهِ، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَعْهُودٌ فِي سَائِرِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ. يُقَالُ: هَجَمْنَا عَلَى بَنِي فُلَانٍ حَتَّى أَفْنَيْنَاهُمْ أَوْ أَتَيْنَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَكَرُّوا عَلَيْنَا - مَثَلًا - وَإِنَّمَا كَرَّ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ.

أَقُولُ: وَإِطْلَاقُ الْحَيَاةِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأُمَمِ، وَالْمَوْتِ عَلَى مُقَابِلِهَا مَعْهُودٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (٨: ٢٤) وَقَوْلِهِ: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (٦: ١٢٢) الْآيَةَ. وَانْظُرْ إِلَى دِقَّةِ التَّعْبِيرِ فِي عَطْفِ الْأَمْرِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى اتِّصَالِ الْهَلَاكِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ، وَإِلَى عَطْفِهِ الْإِخْبَارَ

<<  <  ج: ص:  >  >>