للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِإِحْيَائِهِمْ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي ذَلِكَ وَتَأَخُّرِهِ; وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا شَعَرَتْ بِعِلَّةِ الْبَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِهَا وَذَهَابِهِ بِاسْتِقْلَالِهَا فَإِنَّهُ لَا يَتَيَسَّرُ لَهَا تَدَارُكُ مَا فَاتَ إِلَّا فِي زَمَنٍ طَوِيلٍ، فَمَا قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُوَ مَا يُعْطِيهِ النَّظْمُ الْبَلِيغُ وَتُؤَيِّدُهُ السُّنَنُ الْحَكِيمَةُ، وَأَمَّا الْمَوْتُ الطَّبِيعِيُّ فَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَمَا عُلِمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ وَمِنْ كِتَابِهِ إِذْ قَالَ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) (٤٤: ٥٦) وَقَالَ: (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٤٠: ١١) وَلِذَلِكَ أَوَّلَ بَعْضُهُمُ الْمَوْتَ هُنَا بِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ السَّكْتَةِ وَالْإِغْمَاءِ الشَّدِيدِ لَمْ تُفَارِقْ بِهِ الْأَرْوَاحُ أَبْدَانَهَا، وَقَدْ قَالَ بَعْدَ مَا قَرَّرَهُ: هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فَلَا نُحَمِّلُ الْقُرْآنَ مَا لَا يَحْمِلُ لِنُطَبِّقَهُ عَلَى بَعْضِ قِصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَقُلْ إِنَّ أُولَئِكَ الْأُلُوفَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ فِي الْآيَاتِ

الْآتِيَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا صِحَّةَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّهُمْ هَرَبُوا مِنَ الطَّاعُونِ، وَأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي إِيرَادِ قِصَّتِهِمْ بَيَانُ أَنَّهُ لَا مَفَرَّ مِنَ الْمَوْتِ; لَمَّا كَانَ لَنَا مَنْدُوحَةٌ عَنْ تَفْسِيرِ إِحْيَائِهِمْ بِأَنَّ الْبَاقِينَ مِنْهُمْ تَنَاسَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَثُرُوا، وَكَانَتِ الْأُمَّةُ بِهِمْ حَيَّةً عَزِيزَةً; لِيَصِحَّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهَا مُرْتَبِطَةً بِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُنَا بِالْقِتَالِ لِأَجْلِ أَنْ نُقْتَلَ ثُمَّ يُحْيِينَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَبْعَثُ مُنْ قُتِلَ مِنَّا بَعْدَ مَوْتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) كَافَّةً بِمَا جُعِلَ فِي مَوْتِهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ، إِذْ جَعَلَ الْمَصَائِبَ وَالْعَظَائِمَ مُحْيِيَةً لِلْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ كَمَا جَعَلَ الْهَلَعَ وَالْجُبْنَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي أَفْسَدَهَا التَّرَفُ وَالسَّرَفُ مِنْ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْأُمَمِ، وَجَعَلَ ضَعْفَ أُمَّةٍ مُغْرِيًا لِأُمَّةٍ قَوِيَّةٍ بِالْوَثَبَانِ عَلَيْهَا، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى اسْتِقْلَالِهَا، وَجَعَلَ الِاعْتِدَاءَ مُنَبِّهًا لِلْقُوَى الْكَامِنَةِ فِي الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَمُلْجِئًا لَهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَوَاهِبِ اللهِ فِيمَا وُهِبَتْ لِأَجْلِهِ حَتَّى تَحْيَا الْأُمَمُ حَيَاةً عَزِيزَةً، وَيَظْهَرَ فَضْلُ اللهِ تَعَالَى فِيهَا.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُرَادُ بِالْفَضْلِ هُنَا الْفَضْلُ الْعَامُّ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِمَاتَةَ النَّاسِ بِمَا يُسَلَّطُ عَلَى الْأُمَّةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ يُنَكِّلُونَ بِهَا بِمَثَابَةِ هَدْمِ الْبِنَاءِ الْقَدِيمِ الْمُتَدَاعِي وَالضَّرُورَةُ قَاضِيَةٌ بِبِنَائِهِ، فَلَا جَرَمَ تَنْبَعِثُ الْهِمَّةُ إِلَى هَذَا الْبِنَاءِ الْجَدِيدِ فَيَكُونُ حَيَاةً جَدِيدَةً لِلْأُمَّةِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُ الْأُمَمِ فَتَسُوءُ الْأَعْمَالُ، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَى فَاسِدِي الْأَخْلَاقِ النَّكَبَاتِ لِيَتَأَدَّبَ الْبَاقِي مِنْهُمْ فَيَجْتَهِدُوا فِي إِزَالَةِ الْفَسَادِ، وَإِدَالَةِ الصَّلَاحِ، وَيَكُونُ مَا هَلَكَ مِنَ الْأُمَّةِ بِمَثَابَةِ الْعُضْوِ الْفَاسِدِ الْمُصَابِ ((بِالْغَنْغَرِينَا)) يَبْتُرُهُ الطَّبِيبُ لِيَسْلَمَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَمَنْ لَا يَقْبَلْ هَذَا التَّأْدِيبَ الْإِلَهِيَّ فَإِنَّ عَدْلَ اللهِ فِي الْأَرْضِ يَمْحَقُهُ مِنْهَا (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (٢: ٢٧٠) فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَكَانَ النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا، وَلِهَذَا قَالَ:

(وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) أَيْ: لَا يَقُومُونَ بِحُقُوقِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَلَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ السُّنَّةِ; أَيْ هَذَا شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي غَفْلَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِحِكْمَةِ رَبِّهِمْ، فَلَا تَكُونُوا كَذَلِكَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بَلِ اعْتَبِرُوا بِمَا نَزَلَ عَلَيْكُمْ وَتَأَدَّبُوا بِهِ لِتَسْتَفِيدُوا مِنْ كُلِّ حَوَادِثِ الْكَوْنِ، حَتَّى مِمَّا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ إِذَا وَقَعَ مِنْكُمْ تَفْرِيطٌ فِي بَعْضِ الشُّئُونِ،

وَاعْلَمُوا أَنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>