(السَّادِسَةُ) أَنَّ الْأُمَمَ فِي طَوْرِ الْجَهْلِ تَرَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْمُلْكِ وَالزَّعَامَةِ أَصْحَابُ الثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى مُلْكِ طَالُوتَ فِي تَأْيِيدِ إِنْكَارِهِمْ
(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) وَأَصْحَابُ الْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ، كَمَا عُلِمَ مِمَّا فَسَّرَ بِهِ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُمْ لَهُ: (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) فَهَذَا الِاعْتِقَادُ مِنَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي الْأُمَمِ الْجَاهِلَةِ خَاصَّةً، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَخْضَعُ لِأَصْحَابِ الْعَظَمَةِ الْوَهْمِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ صِفَةً لِنَفْسِ صَاحِبِهَا كَالْمَالِ وَالِانْتِسَابِ إِلَى بَعْضِ الْعُظَمَاءِ فِي عُرْفِهِمْ، سَوَاءً كَانَتْ عَظَمَتُهُمْ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ. هَذَا مَوْضِعُ الْخَطَأِ فِي تَعْظِيمِ ذِي النَّسَبِ، وَيَشْتَدُّ خَطَرُهُ إِذَا صَارَ الْأَنْسَابُ يَسْتَعْلُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَنْسَابِهِمْ دُونَ عُلُومِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ لَا مَحَلَّ هُنَا لِبَسْطِهِ، وَلَكِنْ نَقُولُ بِالْإِجْمَالِ: إِنَّ الِانْتِسَابَ إِلَى أَهْلِ الشَّرَفِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَعَارِفِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ وَالنُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ الْعَزِيزَةِ، لَهُ أَثَرٌ فِي النَّفْسِ عَظِيمٌ; فَإِنَّ سَلِيلَ الشُّرَفَاءِ جَدِيرٌ بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى كَرَامَةِ نَفْسِهِ فَلَا يُدَنِّسُهَا بِالْخِيَانَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرِثَ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِهِمُ النَّفْسِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِعْدَادُهُ لِلْخَيْرِ أَعْظَمَ فِي الْغَالِبِ.
وَإِنَّكَ لِتَجِدُ الْأُمَمَ الرَّاقِيَةَ فِي الْعِلْمِ وَالِاجْتِمَاعِ تَخْتَارُ مُلُوكَهَا مِنْ سُلَالَةِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَتُحَافِظُ عَلَى قَوَانِينِ الْوِرَاثَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَا ارْتَقَى عَنْ هَذَا إِلَّا أَصْحَابُ الْحُكُومَةِ الْجُمْهُورِيَّةِ.
وَقَدْ جَاءَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَسَطًا فَلَمْ يُغْفِلْ أَمْرَ النَّسَبِ بِالْمَرَّةِ لِئَلَّا تَتَّسِعَ دَائِرَةُ الْخِلَافِ بِطَمَعِ كُلِّ قَبِيلَةٍ فِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَجْعَلِ الْأَمْرَ فِي بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَوَائِلِ، بَلْ جَعَلَهُ فِي قَبِيلَةٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ لَا تَخْلُو مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِمَامَةِ - وَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ فِي نَفْسِهَا - كَانَتْ مُحْتَرَمَةً فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَيُرْجَى أَنْ يَدُومَ احْتِرَامُهَا مَا دَامَ الْإِسْلَامُ الَّذِي أَتَمَّ اللهُ نِعْمَتَهُ عَلَى الْبَشَرِ بِجَعْلِ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْهَا أَلَا وَهِيَ قُرَيْشٌ. فَمِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَظَلَّ الرِّيَاسَةُ الْعُلْيَا لِلْأُمَّةِ مُرْتَبِطَةً بِتَارِيخِ مَاضِيهَا وَقَوْمِ مُؤَسِّسِهَا كَارْتِبَاطِ دِينِهَا بِوَطَنِهِ فِي عِبَادَتِهَا الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ.
(السَّابِعَةُ) أَنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي اخْتِيَارِ الرَّجُلِ فِي الْمُلْكِ هِيَ مَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) الْآيَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
(الثَّامِنَةُ) هِيَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) كَمَا بَيَّنَاهُ مُعَزَّزًا بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، عَلَى أَنَّ مَشِيئَتَهُ تَعَالَى إِنَّمَا تَنْفُذُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ الْعَامَّةِ فِي
تَغْيِيرِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute