للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [٦: ٣٨] وَوَصَفَهُ بِالْحَكِيمِ وَبِالْمَجِيدِ وَبِالْعَظِيمِ وَبِالْمُبِينِ وَبِالْفُرْقَانِ، وَحَفِظَهُ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَوَصَفَ الشَّرِيعَةَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الْأَعْلَى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [٨٧: ٨] وَقَالَ فِي أُمَّتِهِ، أَيْ أُمَّةِ الْإِجَابَةِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ حَقَّ الِاتِّبَاعِ دُونَ الَّذِينَ لَقَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَهْتَدُوا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [٢: ١٤٣] وَقَالَ فِيهَا مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ [٣: ١١٠] وَلَوْ أَرَدْتُ اسْتِقْصَاءَ الْآيَاتِ فِي وُجُوهِ دَرَجَاتِهِ - صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - لَأَتَيْتُ بِكَثِيرٍ،

وَهَذَا الْقَلِيلُ لَا يُقَالُ لَهُ قَلِيلٌ، وَفِي الْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ خَصَائِصِهِ مَا أُفْرِدَ بِالتَّأْلِيفِ وَهِيَ مِمَّا يَصِحُّ أَنَّ تُعَدَّ مِنْ دَرَجَاتِهِ، وَإِنَّكَ لَتَرَى الْعُلَمَاءَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ، بَلْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا إِدْرِيسَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [١٩: ٥٧] عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ لَيْسَ بِمَعْنَى الدَّرَجَاتِ، وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَعْنَى رَفْعِ اللهِ دَرَجَاتِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ الْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ: فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَمْلَ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ عَلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، وَبَالَغَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْهُ، وَكَيْفَ يُقْبَلُ هَذَا مِنْهُ وَالْآيَةُ جَاءَتْ بَعْدَ مُطْلَقِ التَّفْضِيلِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالدَّلَائِلِ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا، وَتَفْسِيرُ الْمُبْهَمِ بِالدَّلِيلِ لَيْسَ مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَيَّدَهُ السِّيَاقُ وَرَضِيَ بِهِ الْأُسْلُوبُ، إِنَّمَا التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ هُوَ مَا يَكُونُ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَنْتَحِلُونَ مَذْهَبًا يَجْعَلُونَهُ أَصْلًا فِي الدِّينِ، ثُمَّ يُحَاوِلُونَ حَمْلَ الْآيَاتِ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالْأَخْذِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَرْكِ بَعْضٍ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْبَيِّنَاتُ: هِيَ مَا تَبَيَّنَ بِهِ الْحَقُّ مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [٢: ٩٢] وَرُوحِ الْقُدُسِ: هُوَ رُوحُ الْوَحْيِ الَّذِي يُؤَيِّدُ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ كَمَا قَالَ لِنَبِيِّنَا: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [٤٢: ٥٢] الْآيَةَ. وَقَالَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [١٦: ١٠٢] وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّوحِ الطَّيِّبَةِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي أُيِّدَ بِهَا عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي آيَةِ (٨٧) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَلَا نُطِيلُ فِي إِعَادَةِ تَفْسِيرِهَا، وَلَعَلَّ النُّكْتَةَ فِي ذِكْرِ اسْمِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَنَّ مَا آتَاهُ لَمَّا كَانَ مُشْتَرَكًا كَانَ ذِكْرُهُ بِالْإِبْهَامِ غَيْرَ صَرِيحٍ فِي كَوْنِهِ مِمَّنْ فُضِّلَ بِهِ، أَوِ الرَّدُّ عَلَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ، فَزَعَمُوا أَنَّهُ إِلَهٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>