للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِهِمُ الْأُمَّةُ الَّتِي رَضِيَتْ بِأَحْكَامِهِمْ. فَهَلْ يُشَبَّهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَصْلُحُونَ! سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [٣٧: ١٨٠

أَقُولُ: لا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَ نَفْيِ الْخُلَّةِ وَالشَّفَاعَةِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ تَعْرِيضٌ بِهَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَمْنَحُونَ بِالشَّفَاعَةِ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّ وَيَمْنَعُونَ الْمُسْتَحِقَّ وَيُعَاقِبُونَ بِهَا الْبَرِيءَ وَيَعْفُونَ عَنِ الْمُجْرِمِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ بِالنِّعَمِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُنْفِقُونَ فِي سُبُلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ، وَقَدْ صَارَ الظُّلْمُ عَلَيْهِمْ كَمَا أَفَادَتِ الْجُمْلَةُ الْمُعَرَّفَةُ الطَّرَفَيْنِ تَشْنِيعًا لِحَالِهِمْ، كَأَنَّ كُلَّ ظُلْمٍ غَيْرَ ظُلْمِهِمْ ضَعِيفٌ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَدَنَّسُوهَا بِرَذِيلَةِ الْبُخْلِ وَمَنْعِ الْحَقِّ، وَظَلَمُوا الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ فُرِضَتْ لَهُمُ الصَّدَقَةُ بِمَنْعِهِمْ مِمَّا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ، وَظَلَمُوا الْأُمَّةَ بِإِهْمَالِ مَصَالِحِهَا الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِسَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّ أُمَّةً يُؤَدِّي أَغْنِيَاؤُهَا مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمْ لِفُقَرَائِهَا وَلِمَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ لَا تَهْلَكُ وَلَا تَخْزَى، وَلَا شَيْءَ أَسْرَعُ فِي إِهْلَاكِ الْأُمَّةِ مِنْ فُشُوِّ الْبُخْلِ وَمَنْعِ الْحَقِّ فِي أَفْرَادِهَا.

وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ مِمَّا يَتَهَاوَنُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَفِي أَزْمِنَةٍ قَبْلَهَا ; لِظَنِّهِمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ يُرَادُ بِهِ الْكَافِرُونَ

بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْجَاحِدُونَ لِلْأُلُوهِيَّةِ أَوْ لِلنُّبُوَّةِ أَوْ لِشَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ إِجْمَاعًا، وَهَذِهِ الْآيَةٌ نَفْسُهَا تُبْطِلُ ظَنَّهُمْ وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَلَمْ يَقُلْ وَالظَّالِمُونَ هُمُ الْكَافِرُونَ " يَعْنِي أَنْ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ امْرُؤٌ مِنْ ظُلْمٍ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ كُلُّ ظَالِمٍ كَافِرًا لَهَلَكَ النَّاسُ، وَقَدْ فَاتَ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الظُّلْمَ وَالْكُفْرَ فِي الْقُرْآنِ يَتَوَارَدَانِ عَلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، فَيُطْلَقَانِ تَارَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ وَتَارَةً عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَمِنْهُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيُقَابِلُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ [٦: ٣٣] وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١: ١٣] وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٦: ٨٢] فُسِّرَ الظُّلْمُ هُنَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بِالشِّرْكِ وَتَلَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْآيَةَ السَّابِقَةَ شَاهِدًا، وَمِنِ اسْتِعْمَالِ الْكُفْرِ بِمَعْنَى كُفْرِ النِّعَمِ بِعَمَلِ السُّوءِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لِشَدِيدٌ [١٤: ٧] بَلِ اسْتُعْمِلَ الْكُفْرُ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنًى لُغَوِيٍّ غَيْرِ مَذْمُومٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [٥٧: ٢٠] الْكُفَّارُ هُنَا بِمَعْنَى الزُّرَّاعِ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَكْفُرُونَ الْحَبَّ بِالتُّرَابِ، أَيْ يُغَطُّونَهُ وَيَسْتُرُونَهُ.

وَالسِّتْرُ وَالتَّغْطِيَةُ هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِهَذِهِ الْمَادَّةِ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلِ الظُّلْمُ فِي مَعْنًى مَحْمُودٍ قَطُّ، فَالظُّلْمُ فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهِ شَرٌّ مِنَ الْكُفْرِ فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>