للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثُمَّ إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - تَوَعَّدَ عَلَى الظُّلْمِ بِالْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ كَمَا تَوَعَّدَ عَلَى الْكُفْرِ سَوَاءٌ كَانَا بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي. قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [١٤: ٢٨ - ٣٠] الْوَعِيدُ الْأَوَّلُ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ بِعَمَلِ السَّيِّئَاتِ وَتَرْكِ الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ الصَّالِحَةِ، وَالْوَعِيدُ الثَّانِي عَلَى الشِّرْكِ وَكِلَاهُمَا مِنْ وَعِيدِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ

وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [١٦:١١٢ - ١١٤] فَالْوَعِيدُ الْأَوَّلُ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ عَلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَالثَّانِي مِثْلُهُ وَهُوَ عَلَى الظُّلْمِ فِي الِاعْتِقَادِ. وَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ وَالتَّوْحِيدَ الْخَالِصَ يَقْتَضِي شُكْرَ النِّعَمِ وَحُسْنَ الْعَمَلِ. وَمِنَ الْوَعِيدِ عَلَى الظُّلْمِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [١٩: ٧٢] أَيْ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [٤٢: ٤٥] وَأَمَّا وَعِيدُ الظَّالِمِينَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا كَهَلَاكِ الْأُمَّةِ فَكَثِيرٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [١١: ١٠٢] إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ لَا وَجْهَ لَهُ، وَأَنَّ الظَّالِمِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِتَابِهِ - تَعَالَى - وَفِي حُكْمِهِ سَوَاءٌ ; وَأَنَّ الْكُفْرَ وَالظُّلْمَ فِي الْعَمَلِ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَّا مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ اللَّمَمِ، فَقَدْ يُلِمُّ بِالْمُؤْمِنِ الذَّنْبُ بِجَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ غَلَبَةِ انْفِعَالٍ ثُمَّ يَعُودُ مِنْ قَرِيبٍ وَلَا يُصِرُّ عَلَى الذَّنْبِ وَهُوَ يَعْلَمُ، وَإِنَّ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ لَيْسَ مِنَ اللَّمَمِ، فَالْمَنْعُ لَهُ لَا يَتَّفِقُ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالدِّينِ الْخَالِصِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَيُعْجِبُنِي مَا قَالَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَالَ: " يُرِيدُ: وَالتَّارِكُونَ لِلزَّكَاةِ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِذْ وَضَعُوا الْمَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَصَرَفُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ. فَوُضِعَ " الْكَافِرُونَ " مَوْضِعَهُ تَغْلِيظًا وَتَهْدِيدًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ كَفَرَ [٣: ٩٧] مَكَانَ: وَمَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَإِيذَانًا بِأَنَّ تَرْكَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [٤١: ٦، ٧] اهـ ". وَقَدْ صَدَقَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، أَيْ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا فَتَكُونُ صِفَةً لَهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: لَوْ فَتَّشْتُمْ عَنْ خَفَايَا النَّفْسِ لَوَجَدْتُمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا مِنَ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ هِيَ أَنَّ حُبَّ الْمَالِ أَعْلَى فِي قَلْبِ الْمَانِعِ مِنْ حُبِّ اللهِ - تَعَالَى -، وَشَأْنُ الْمَالِ أَعْظَمُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حُقُوقِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ; لِأَنَّ النَّفْسَ تُذْعِنُ دَائِمًا لِمَا هُوَ أَرْجَحُ فِي شُعُورِهَا نَفْعًا، وَأَعْظَمُ فِي وِجْدَانِهَا وَقْعًا، مَهْمَا تَعَارَضَتْ وُجُوهُ الْمَنَافِعِ، وَلَوْ وَزَنْتُمْ جَمِيعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>