أَنْوَاعِ الظُّلْمِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ لَوَجَدْتُمْ أَرْجَحَهَا ظُلْمَ الْبَاخِلِ بِفَضْلِ مَا لَهُ عَلَى مَلْهُوفٍ يُغِيثُهُ وَمُضْطَرٍّ يَكْشِفُ ضَرُورَتَهُ، أَوْ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي
تَقِي أُمَّتَهُ مُصَارِعَ الْهَلَكَاتِ أَوْ تَرْفَعُهَا عَلَى غَيْرِهَا دَرَجَاتٍ، أَوْ تَسُدُّ الْخُرُوقَ الَّتِي حَدَثَتْ فِي بِنَاءِ الدِّينِ، أَوْ تُزِيلُ السُّدُودَ وَالْعَقَبَاتِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الظُّلْمِ هُوَ الَّذِي لَا يُعْذَرُ صَاحِبُهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْعُذْرِ الَّتِي يَتَعَلَّلُ بِهَا سِوَاهُ مِنْ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، أَوِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ أَعْذَارًا طَبِيعِيَّةً فِيمَنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِأَدَبِ الدِّينِ، كَسَوْرَةِ الْغَضَبِ وَثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ الْعَارِضَةِ.
(قَالَ) : تَرَى كَثِيرًا مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَارِفِينَ بِمَا عَلَيْهِ أُمَّتُهُمْ مِنَ الْجَهْلِ بِأُمُورِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ وَتَقَطُّعِ الرَّوَابِطِ وَتَرَاخِي الْأَوَاخِي وَمَا نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَضْمِ حُقُوقِهَا وَانْتِزَاعِ مَنَافِعِهَا مِنْ أَيْدِي أَبْنَائِهَا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ إِصْلَاحَهُمْ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَذْلِ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُنْفَقُ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمَنَافِعِ الْعَامَّةِ، ثُمَّ هُمْ يُدْعَوْنَ إِلَى بَذْلِ قَلِيلٍ مِنْ كَثِيرِ مَا خَزَنُوهُ فِي صَنَادِيقِ الْحَدِيدِ وَمَا يُنْفِقُونَهُ فِي شَهَوَاتِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ وَتَأْيِيدِ أَهْوَائِهِمْ وَحُظُوظِهِمْ فَيَبْخَلُونَ بِذَلِكَ وَيَرَوْنَهُ مَغْرَمًا ثَقِيلًا، وَلَا يَحْلِفُونَ بِوَعْدِ اللهِ لِلْمُنْفِقِينَ فِي سَبِيلِهِ وَلَا وَعِيدِهِ لِلْبَاخِلِينَ بِفَضْلِهِ، وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي نَفْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ عِرْقٌ يَنْبِضُ فِي التَّأَلُّمِ لِمَصَائِبِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَمَنْ كَانَ يَرَى أَنَّ مَالَهُ أَفْضَلُ مِنْ دِينِهِ فِي الْوِجْدَانِ وَالْعَمَلِ، وَهَوَاهُ أَرْجَحُ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ فَهُوَ كَافِرٌ حَقِيقَةً وَإِنْ سَمَّى نَفْسَهُ مُؤْمِنًا فَمَا إِيمَانُهُ إِلَّا كَإِيمَانِ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [٢: ٨] فَهُنَاكَ يُحْكَى عَنْهُمْ دَعْوَى الْإِيمَانِ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِهِ ; لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَشْهَدُ لِإِيمَانِهِمْ وَهَاهُنَا يُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْكَافِرِينَ، وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يُطْلِقَ اللهُ - تَعَالَى - هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ عَلَى مَنْ كَانَ لِلْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ بَقِيَّةٌ تَبْعَثُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ إِيثَارًا لِرِضْوَانِهِ وَخَشْيَتِهِ عَلَى الشَّهَوَاتِ وَالْحُظُوظِ الْبَاطِلَةِ وَتَرْجِيحًا عَلَى حُبِّ الْمَالِ. وَأَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَوْهَرِ الدِّينِ وَمَا بِهِ النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ التَّنْبِيهُ إِلَى الْعِبْرَةِ بِشَقَاءِ الدُّنْيَا الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِ الْإِنْفَاقِ. وَأَقُولُ: مَاذَا يَبْلُغُ وَزْنُ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ إِذَا وُضِعَ فِي مِيزَانِ الْقُرْآنِ وَقُوبِلَ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُمْ إِنْفَاقَ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ مُنْذِرًا إِيَّاهُمْ بِأَنَّ الْبُخْلَ قَاضٍ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِبْدَالِ قَوْمٍ آخَرِينَ بِهِمْ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلُ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [٤٧: ٣٨
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute