لَهَا حَقِيقَةً. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ صَاحِبُ سُلْطَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَلَى النُّفُوسِ يَبْعَثُهَا عَلَى تَعْظِيمِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ قَهْرًا مِنْهَا مُعْتَقِدَةً أَنَّ بِيَدِهِ مَنْحَ الْخَيْرِ وَرَفْعَ الضُّرِّ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ أَوْ بِإِبْطَالِ السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ إِلَّا اللهَ - تَعَالَى - وَحْدَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَأَمَّا " الْحَيُّ " فَهُوَ ذُو الْحَيَاةِ وَهِيَ مَبْدَأُ الشُّعُورِ وَالْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ وَالنُّمُوِّ، وَمَثَّلَ لِذَلِكَ بِالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَيٌّ وَإِنْ تَفَاوَتَتِ الْحَيَاةُ فِيهِمَا فَكَانَتْ فِي الْحَيَوَانِ أَكْمَلَ مِنْهَا فِي النَّبَاتِ. قَالَ: وَالْحَيَاةُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُنَزَّهُ اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ ; وَلِذَلِكَ فَسَّرَ مُفَسِّرُنَا " الْحَيَّ " بِالدَّائِمِ الْبَقَاءَ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَيَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - مَبْدَأُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ; أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي يُعْقَلُ مَعَهُ الِاتِّصَافُ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ: وَهَذَا الْوَصْفُ يُبْطِلُ قَوْلَ الْمَادِّيِّينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَبْدَأَ الْكَوْنِ عِلَّةٌ تَتَحَرَّكُ بِطَبْعِهَا وَلَا شُعُورَ لَهَا بِنَفْسِهَا وَلَا بِحَرَكَتِهَا وَمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْآثَارِ ; أَيْ إِنَّ هَذَا النِّظَامَ وَالْإِحْكَامَ فِي الْخَلْقِ مِنْ آثَارِ الْمَادَّةِ الْمَيِّتَةِ الَّتِي لَا شُعُورَ لَهَا وَلَا عِلْمَ.
اخْتَصَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي حَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - شَيْئًا، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى حَيَاةِ اللهِ تَعَالَى بِالْعَقْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ - تَعَالَى - عَلِيمٌ مُرِيدٌ قَدِيرٌ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُعْقَلُ إِلَّا لِلْحَيِّ، وَفِيهِ أَنَّهُ مِنْ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ كَمَا يَقُولُونَ، أَوْ مِنْ قِيَاسِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُمْكِنِ.
وَثَانِيهُمَا: أَنَّ الْحَيَاةَ كَمَالٌ وُجُودِيٌّ وَكُلُّ كَمَالٍ لَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصًا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْوَاجِبِ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ. وَهَذَا مَا قَدَّمَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ "، وَقَدْ قَدَّمَ لَهُ بِمُقَدِّمَةٍ نَفِيسَةٍ فِي صِفَاتِ الْوَاجِبِ. قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:
" مَعْنَى الْوُجُودِ وَإِنْ كَانَ بَدِيهِيًّا عِنْدَ الْعَقْلِ وَلَكِنَّهُ يُتَمَثَّلُ لَهُ بِالظُّهُورِ ثُمَّ الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَكَمَالُ الْوُجُودِ وَقُوَّتُهُ بِكَمَالِ هَذَا الْمَعْنَى وَقُوَّتِهِ بِالْبَدَاهَةِ.
وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ تَسْتَتْبِعُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ مَا هُوَ كَمَالٌ لِتِلْكَ الْمَرْتَبَةِ فِي الْمَعْنَى السَّابِقِ ذِكْرُهُ. وَإِلَّا كَانَ الْوُجُودُ لِمَرْتَبَةٍ سِوَاهَا، وَقَدْ فُرِضَ لَهَا مَا يَتَجَلَّى لِلنَّفْسِ مِنْ مِثْلِ الْوُجُودِ مَا لَا يَنْحَصِرُ، وَأَكْمَلُ مِثَالٍ فِي أَيَّةِ مَرْتَبَةٍ مَا كَانَ مَقْرُونًا بِالنِّظَامِ وَالْكَوْنِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا تَشْوِيشٌ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّظَامُ بِحَيْثُ يَسْتَتْبِعُ وُجُودًا مُسْتَمِرًّا وَإِنْ كَانَ فِي النَّوْعِ كَانَ أَدَلَّ عَلَى كَمَالِ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ فِي صَاحِبِ الْمِثَالِ.
فَإِنْ تَجَلَّتْ لِلنَّفْسِ مَرْتَبَةٌ مِنْ مَرَاتِبِ الْوُجُودِ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِكُلِّ نِظَامٍ كَانَ ذَلِكَ عُنْوَانًا عَلَى أَنَّهَا أَكْمَلُ الْمَرَاتِبِ وَأَعْلَاهَا وَأَرْفَعُهَا وَأَقْوَاهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute