وُجُودُ الْوَاجِبِ هُوَ مَصْدَرُ كُلِّ وُجُودٍ مُمْكِنٍ - كَمَا قُلْنَا وَظَهَرَ بِالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ - فَهُوَ بِحُكْمِ ذَلِكَ أَقْوَى الْوُجُودَاتِ وَأَعْلَاهَا، فَهُوَ يَسْتَتْبِعُ مِنَ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ مَا يُلَائِمُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ الْعَلِيَّةَ، وَكُلُّ مَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ كَمَالًا فِي الْوُجُودِ مِنْ حَيْثُ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْ مَعْنَى الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالظُّهُورِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ، وَكَوْنُهُ مَصْدَرًا لِلنِّظَامِ وَتَصْرِيفِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا اضْطِرَابَ فِيهِ - يُعَدُّ مِنْ كَمَالِ الْوُجُودِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ثَابِتًا لَهُ ; فَالْوُجُودُ الْوَاجِبُ يَسْتَتْبِعُ مِنَ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ.
فَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ صِفَةُ الْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تَسْتَتْبِعُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَيَاةَ مِمَّا يُعْتَبَرُ كَمَالًا لِلْوُجُودِ بَدَاهَةً ; فَإِنَّ الْحَيَاةَ مَعَ مَا يَتْبَعُهَا مَصْدَرُ النِّظَامِ وَنَامُوسُ الْحِكْمَةِ، وَهِيَ فِي أَيِّ مَرَاتِبِهَا مَبْدَأُ الظُّهُورِ وَالِاسْتِقْرَارِ فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فَهِيَ كَمَالٌ وَجُودِيٌّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهَا الْوَاجِبُ، وَكُلُّ كَمَالٍ وَجُودِيٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ، فَوَاجِبُ الْوُجُودِ حَيٌّ وَإِنْ بَايَنَتْ حَيَاتُهُ الْمُمْكِنَاتِ، فَإِنَّ مَا هُوَ كَمَالٌ لِلْوُجُودِ إِنَّمَا هُوَ مَبْدَأُ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَوْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ لَكَانَ فِي الْمُمْكِنَاتِ مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وُجُودًا. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَعْلَى الْوُجُودَاتِ وَأَكْمَلُهَا فِيهِ.
وَالْوَاجِبُ: هُوَ وَاهِبُ الْوُجُودِ وَمَا يَتْبَعُهُ، فَكَيْفَ لَوْ كَانَ فَاقِدًا لِلْحَيَاةِ يُعْطِيهَا؟
فَالْحَيَاةُ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ مَصْدَرُهَا " اهـ.
أَقُولُ: وَهَذَا تَحْقِيقٌ دَقِيقٌ لَا نَجِدُ مِثْلَهُ لِغَيْرِ هَذَا الْإِمَامِ الْعَارِفِ وَالْحَكِيمِ الْمُحَقِّقِ وَلَا يَعْقِلُهُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ، وَقَدْ كُنْتُ كَتَبْتُ فِي كِتَابِ الْعَقَائِدِ - الَّذِي أَلَّفْتُهُ بِاقْتِرَاحِهِ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِمَعَارِفِ هَذَا الْعَصْرِ وَيُفِيدُ طُلَّابَ عُلُومِهِ - كَلَامًا فِي حَيَاةِ اللهِ - تَعَالَى - قَرِيبًا مِنَ الْأَفْهَامِ، وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ. وَإِنَّنِي أُحِبُّ إِيرَادَهُ هُنَا ; لِأَنَّنِي لَمْ أَرَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَلَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ كَلَامًا مُمْتِعًا فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَهُوَ وَارِدٌ بِأُسْلُوبِ السُّؤَالِ مِنْ تِلْمِيذٍ مُبْتَدِئٍ فِي الْمَدَارِسِ وَالْجَوَابِ مِنْ أَخِيهِ وَهُوَ عَالِمٌ عَصْرِيٌّ طَبِيبٌ نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالشَّابِّ، وَمِنْ أَبِيهِ وَهُوَ عَالِمٌ صُوفِيٌّ، نُعَبِّرُ عَنْهُ بِالشَّيْخِ. وَهَذَا نَصُّهُ بِاخْتِصَارٍ مَا:
قَالَ التِّلْمِيذُ: تَنْبُتُ الشَّجَرَةُ صَغِيرَةً ثُمَّ تَنْمُو حَتَّى تَكُونَ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ أَضْعَافَ مَا كَانَتْ، فَمِنْ أَيْنَ تَجِيءُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ؟ وَكَيْفَ تَدْخُلُ فِي بِنْيَتِهَا وَتَتَفَرَّقُ فَتَأْخُذُ السَّاقُ مِنْهَا حَظًّا وَالْفُرُوعُ حَظًّا وَكَذَلِكَ الْوَرَقُ وَالثَّمَرُ؟
الشَّابُّ: إِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي بِنْيَةِ النَّبَاتِ، بَعْضُهَا مِنَ الْأَرْضِ وَبَعْضُهَا مِنَ الْهَوَاءِ، وَالنَّبَاتُ جِسْمٌ حَيٌّ، فَهُوَ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ يَأْخُذُ مِنْ عَنَاصِرِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ مَا يَصْلُحُ لِغِذَائِهِ فَيَتَغَذَّى بِهِ، كَمَا يَتَغَذَّى الْحَيَوَانُ بِمَا يَأْكُلُهُ وَيَشْرَبُهُ، وَيَنْمُو بِذَلِكَ كَمَا يَنْمُو الْحَيَوَانُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute