للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [٣: ١٨] وَالْقِسْطُ هُنَا: هُوَ الْعَدْلُ الْعَامُّ فِي سُنَنِهِ الْكَوْنِيَّةِ وَشَرَائِعِهِ، وَمِنْهَا الْقِيَامُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ كَمَا قَالَ: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [١٣: ٣٣] وَقَدْ قَصَّرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بَيَانِ مَعْنَى " الْحَيِّ " وَقَارَبُوا فِي مَعْنَى " الْقَيُّومِ ". قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: هُوَ قَيِّمُ كُلِّ شَيْءٍ يَكْلَؤُهُ وَيَرْزُقُهُ وَيَحْفَظُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْقَائِمُ عَلَى خَلْقِهِ بِآجَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: - مِنْ رُوَاةِ اللُّغَةِ - مَعْنَاهُ الْمُدَبِّرُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ نَحْوَ قَوْلِ قَتَادَةَ. قَالَ فِي شَرْحِ الْقَامُوسِ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِ قَتَادَةَ: وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا لَا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُومُ بِهِ كُلُّ مَوْجُودٍ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ شَيْءٍ وَلَا دَوَامُ وَجُودِهِ إِلَّا بِهِ. قُلْتُ: وَلِذَا قَالُوا فِيهِ: إِنَّهُ اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ اهـ. وَالْمَادَّةُ تُعْطِي هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا. وَالْغَزَّالِيُّ يُبْدِئُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِحْيَاءِ وَيُعِيدُهُ لَا سِيَّمَا فِي كِتَابِ الشُّكْرِ وَكِتَابِ التَّوَكُّلِ، وَمِمَّا قَالَهُ فِي الْأَوَّلِ، وَقَدْ قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى أَقْسَامٍ فِي شُهُودِهِمْ نِعَمَ اللهِ وَشُكْرِهِ قَالَ: " النَّظَرُ الثَّانِي: نَظَرُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَمْ يُثْبِتُوا إِلَّا وُجُودَ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْعُمْيَانُ الْمَنْكُوسُونَ وَعَمَاهُمْ فِي كِلْتَا الْعَيْنَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ نَفَوْا مَا هُوَ الثَّابِتُ تَحْقِيقًا وَهُوَ الْقَيُّومُ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَكُلُّ قَائِمٍ فَهُوَ قَائِمٌ بِهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا حَتَّى أَثْبَتُوا أَنْفُسَهُمْ وَلَوْ عَرَفُوا لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ هُمْ، لَا ثَبَاتَ لَهُمْ وَلَا وُجُودَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا وُجُودُهُمْ مِنْ حَيْثُ أُوجِدُوا لَا مِنْ حَيْثُ وُجِدُوا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَبَيْنَ الْمُوجَدِ، وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ إِلَّا مَوْجُودٌ وَاحِدٌ وَمُوجِدٌ، فَالْمَوْجُودُ حَقٌّ وَالْمُوجَدُ بَاطِلٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ، وَالْمَوْجُودُ قَائِمٌ وَقَيُّومٌ وَالْمُوجَدُ هَالِكٌ فَانٍ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ فَلَا يَبْقَى إِلَّا وَجْهُ رَبِّكِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ " اهـ.

لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ السِّنَةُ: النُّعَاسُ ; وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ قَالَ ابْنُ الرِّقَاعِ:

وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

وَالنَّوْمُ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ تَعْرِيفُهُ مِنْ جِهَةِ بَيَانِ سَبَبِهِ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ:

" وَالنَّوْمُ حَالٌ يَعْرِضُ لِلْحَيَوَانِ مِنِ اسْتِرْخَاءِ أَعْصَابِ الدِّمَاغِ مِنْ رُطُوبَاتِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ بِحَيْثُ تَقِفُ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ عَنِ الْإِحْسَاسِ رَأْسًا " وَهُوَ قَوْلُ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ أَقْوَالٌ أُخْرَى مُخْتَلِفَةٌ سَنُشِيرُ إِلَى بَعْضِهَا. قِيلَ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَنْفِيَ النَّوْمَ أَوَّلًا وَالسِّنَةَ بَعْدَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّرَقِّي. وَأُجِيبُ بِأَنَّ مَا فِي النَّظْمِ جَاءَ عَلَى حَسَبِ التَّرْتِيبِ الطَّبِيعِيِّ فِي الْوُجُودِ، فَنَفَى مَا يَعْرِضُ أَوَّلًا ثُمَّ مَا يَتْبَعُهُ. وَقَدْ قَالَ: لَا تَأْخُذُهُ دُونَ " لَا تَعْرِضُ لَهُ أَوْ لَا تَطْرَأُ عَلَيْهِ " مُرَاعَاةً لِلْوَاقِعِ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّ السِّنَةَ وَالنَّوْمَ يَأْخُذَانِ الْحَيَوَانَ عَنْ نَفْسِهِ أَخْذًا، وَيَسْتَوْلِيَانِ عَلَيْهِ اسْتِيلَاءً.

<<  <  ج: ص:  >  >>