للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي النَّظْمِ الْكَرِيمِ تَرَقٍّ فِي نَفْيِ هَذَا النَّقْصِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ التَّرَقِّي فَقَدْ غَفَلَ عَنْ مَعْنَى الْأَخْذِ وَهُوَ الْغَلَبُ وَالِاسْتِيلَاءُ، وَمَنْ لَا تَغْلِبُهُ السِّنَةُ قَدْ يَغْلِبُهُ النَّوْمُ لِأَنَّهُ أَقْوَى، فَذِكْرُ النَّوْمِ بَعْدَ السِّنَةِ تَرَقٍّ مِنْ نَفْيِ الْأَضْعَفِ إِلَى نَفْيِ الْأَقْوَى. وَالْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَى الْحَيَاةِ وَالْقَيُّومِيَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ; فَإِنَّ مَنْ تَأْخُذُهُ السِّنَةُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ ضَعِيفَ الْحَيَاةِ وَضَعِيفَ الْقِيَامِ بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ.

أَقُولُ: وَيَظْهَرُ هَذَا عَلَى رَأْيِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي سَبَبِ النَّوْمِ أَكْمَلَ الظُّهُورِ وَإِنْ كَانَ بَدِيهِيًّا فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ النَّوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ بُطْلَانِ عَمَلِ الْمُخِّ بِسَبَبِ مَا تُوَلِّدُهُ الْحَرَكَةُ مِنَ السُّمُومِ الْغَازِيَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْعَصَبِ، وَقِيلَ: بِسَبَبِ مَا تُفْرِزُهُ الْحُوَيْصِلَاتُ الْعَصَبِيَّةُ مِنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بِالْفِعْلِ الْكِيمَاوِيِّ وَقْتَ الْعَمَلِ، فَكَثْرَةُ هَذَا الْمَاءِ تُضْعِفُ قَابِلِيَّةَ التَّأَثُّرِ فِيهَا فَتُحْدِثُ فِيهَا الْفُتُورَ فَيَكُونُ النَّوْمُ، وَيَسْتَمِرُّ إِلَى أَنْ يَتَبَخَّرَ ذَلِكَ الْمَاءُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَنَبَّهُ الْأَعْصَابُ وَيَرْجِعُ إِلَيْهَا تَأَثُّرُهَا وَإِدْرَاكُهَا، فَسَبَبُ النَّوْمِ أَمْرٌ جُسْمَانِيٌّ مَحْضٌ، وَاللهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَعَوَارِضِهَا.

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فَهُمْ مُلْكُهُ وَعَبِيدُهُ مَقْهُورُونَ لِسُنَّتِهِ خَاضِعُونَ لِمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْمُصَرِّفُ لِشُئُونِهِمْ وَالْحَافِظُ لِوُجُودِهِمْ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ مِنْهُمْ فَيَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ مُقْتَضَى مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ، وَقَضَتْ بِهِ حِكْمَتُهُ، وَأَوْعَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُ، مِنْ تَعْذِيبِ مَنْ دَسَّى نَفْسَهُ بِالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ، وَدَنَّسَهَا بِالْأَخْلَاقِ السَّافِلَةِ،

وَأَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، وَأَعْرَضَ عَنِ السُّنَّةِ وَالْفَرْضِ، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْدِمُ عَلَى هَذَا مِنْ عَبِيدِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُ صُورَةٌ وَحَقِيقَةٌ؟ وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ نَصًّا فِي أَنَّ الْإِذْنَ سَيَقَعُ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [١١: ١٠٥] فَهُوَ تَمْثِيلٌ لِانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [٨٢: ١٩] وَلِهَذَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ: " بَيَانٌ لِكِبْرِيَاءِ شَأْنِهِ وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ يُسَاوِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ وَيَسْتَقِلُّ بِأَنْ يَدْفَعَ مَا يُرِيدُهُ شَفَاعَةً وَاسْتِكَانَةً فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعَاوِقَهُ عِنَادًا أَوْ مُنَاصَبَةً ".

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مُحَصَّلُهُ: إِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قَطْعًا لِأَمَلِ الشَّافِعِينَ وَالْمُتَّكِلِينَ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ عَامَّةً بِبَيَانِ انْفِرَادِهِ - تَعَالَى - بِالسُّلْطَانِ وَالْمُلْكِ وَعَدَمِ جُرْأَةِ أَحَدٍ مِنْ عَبِيدِهِ عَلَى الشَّفَاعَةِ أَوِ التَّكَلُّمِ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَإِذْنُهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ أَيْ مَا قَبْلَهُمْ وَمَا بَعْدَهُمْ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ أُمُورَ الدُّنْيَا الَّتِي خَلَّفُوهَا وَأُمُورَ الْآخِرَةِ الَّتِي يَسْتَقْبِلُونَهَا أَوْ مَا يُدْرِكُونَ وَمَا يَجْهَلُونَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الشَّفَاعَةِ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ الْعِبَادُ فِي الْمَاضِي

<<  <  ج: ص:  >  >>