وَاللهُ - تَعَالَى - يَأْذَنُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُطْلِعُ عَلَى عِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِ الشَّفَاعَةِ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا عُلِمَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلٌّ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَمَالِ عِلْمِ اللهِ - تَعَالَى - وَإِحَاطَتِهِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اسْتِحَالَةَ الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ بِالْمَعْنَى الْمَعْهُودِ - كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ - وَقُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَبِذَلِكَ نَجْمَعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي الشَّفَاعَةَ بِدُونِ الِاسْتِثْنَاءِ وَبَيْنَ
هَذِهِ، وَقُلْنَا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، فَنُفَوِّضُ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى الدُّعَاءِ الَّذِي يَفْعَلُ اللهُ - تَعَالَى - عَقِبَهُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْأَزَلِيِّ أَنْ سَيَفْعَلُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّافِعَ لَمْ يُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ وَلَمْ يُحْدِثْ تَأْثِيرًا مَا فِي إِرَادَتِهِ - تَعَالَى - ; وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ كَرَامَةُ اللهِ لِعَبْدِهِ بِمَا أَوْقَعَ الْفِعْلَ عَقِبَ دُعَائِهِ. أَقُولُ: وَبِهَذَا فَسَّرَ الشَّفَاعَةَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ - وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ آيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا [٢: ٤٨] إِلَخْ.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: السِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُرْسِيَّ هُوَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَيُقَالُ: كَرَّسَ الرَّجُلُ كَفَرَّحَ، أَيْ كَثُرَ عِلْمُهُ وَازْدَحَمَ عَلَى قَلْبِهِ ; أَيْ إِنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - مُحِيطٌ بِمَا يَعْلَمُونَ مِمَّا عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَبِمَا لَا يَعْلَمُونَ مِنْ شُئُونِ سَائِرِ الْكَائِنَاتِ. فَبِمَاذَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْلَمَهُ الشُّفَعَاءُ؟ وَقِيلَ: هُوَ الْعَرْشُ، وَاخْتَارَهُ مُفَسِّرُنَا (الْجَلَالُ) وَهُوَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْمَعْصُومِ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ تَمْثِيلٌ لِمُلْكِ اللهِ - تَعَالَى -، وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ يَضْبِطُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ بِهَا عَلَى تَعْيِينِهِ وَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ عِلْمٌ أَوْ مُلْكٌ أَوْ جِسْمٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ، أَيْ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعِلْمُ الْإِلَهِيُّ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ خَلْقًا آخَرَ فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَبْحَثُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَلَا نَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالرَّأْيِ. كَمَا قَالَ كَثِيرُونَ: إِنَّهُ هُوَ الْفَلَكُ الثَّامِنُ الْمُكَوْكَبُ مِنَ الْأَفْلَاكِ التِّسْعَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا فَلَاسِفَةُ الْيُونَانِ وَمُقَلِّدُوهُمْ فَذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ عَلَى اللهِ بِدُونِ عِلْمٍ وَهُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ.
وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أَيْ لَا يُثْقِلُهُ حِفْظُ هَذِهِ الْعَوَالِمِ بِمَا فِيهَا وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ فَيَتَعَالَى بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ شَأْنُهُ كَشَأْنِ الْبَشَرِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَتَنَزَّهُ بِعَظَمَتِهِ عَنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى مَنْ يُعْلِمُهُ بِحَقِيقَةِ أَحْوَالِهِمْ، أَوْ يَسْتَنْزِلُهُ إِلَى مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ مِنْ مُجَازَاتِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ جُمْلَةَ الْآيَةِ تَمْلَأُ الْقَلْبَ بِعَظَمَةِ اللهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِيهِ مَوْضِعٌ لِلْغُرُورِ بِالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يُعَظِّمُهُمُ الْمَغْرُورُونَ تَعْظِيمًا خَيَالِيًّا غَيْرَ مَعْقُولٍ حَتَّى يَنْسَوْنَ أَنَّهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - عَبِيدٌ مَرْبُوبُونَ، أَوْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [٢١: ٢٧، ٢٨] فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِمَّا وَرَدَ فِي عِلْمِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute