للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَانْفِرَادِهِ بِالسُّلْطَةِ لَا سِيَّمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ يَوْمُ الدِّينِ، فَإِنَّ عَظَمَتَهُ - تَعَالَى - لَا تَدَعُ فِي نَفْسِهِ غُرُورًا، بَلْ يُوقِنُ بِأَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى السَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِمَرْضَاةِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الدُّنْيَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُرْضِيًا لِلَّهِ - تَعَالَى - لَا يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لَهُ كَمَا تَلَوْتُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ آنِفًا. وَاتْلُ أَيْضًا قَوْلَهُ - تَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [٢٠: ١٠٨ - ١١٣] وَإِنَّكَ لَتَجِدُ الْمُسْلِمِينَ يَتَرَنَّمُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَقَلَّمَا تُحْدِثُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ ذِكْرًا يَصْرِفُهُ عَنْ حَمْلِ الظُّلْمِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَالِاعْتِمَادِ فِي النَّجَاةِ عَلَى وَعْدِ اللهِ لِمَنْ يَعْمَلُ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، بَلْ تَرَى الْجَمَاهِيرَ يُعْرِضُونَ عَنْ هَذَا الذِّكْرِ وَيَرْجُونَ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالشَّفَاعَاتِ فَقَطْ.

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَبْسُوطًا: جُمْلَةُ الْآيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِنْذَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَتَّكِلُونَ فِي نَجَاتِهِمْ عَلَى شَفَاعَةِ سَلَفِهِمْ فَأَوْقَعَهُمْ ذَلِكَ فِي تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالدِّينِ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ سُنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَسَبَقُوهُمْ فِي الِاتِّكَالِ عَلَى الشَّفَاعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ التَّهَاوُنِ بِالدِّينِ، كَمَا نَرَى هَذِهِ الْقُلُوبَ الَّتِي خَوِيَتْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَخَلَتْ مِنْ خَشْيَتِهِ لِلْجَهْلِ بِمَا يَجِبُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ عَلَى خَطَرِ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ، وَهَذِهِ النُّفُوسُ الْمُنْغَمِسَةُ فِي أَقْذَارِ الشَّهَوَاتِ، الْمُسْتَرْسِلَةُ فِي فِعْلِ الْمُنْكَرَاتِ، وَهِيَ تَشْعُرُ بِأَنَّهَا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ تُرِيدُ أَنْ تَتَلَهَّى بِمَا يَصُمُّهَا عَنْ سَمَاعِ نَذِيرِ الشَّرِيعَةِ لِلْفِطْرَةِ الَّتِي أَفْسَدَتْهَا الْجَهَالَاتُ وَالْأَهْوَاءُ ; لِكَيْلَا تَتَأَلَّمَ بِمَا يُنَغِّصُ عَلَيْهَا لَذَّاتِهَا، أَوْ يُحَتِّمُ عَلَيْهَا طَاعَةَ رَبِّهَا، فَلَا تَرَى أُلُوهِيَّةً تُضِيفُهَا إِلَى الدِّينِ، وَيَرْتَضِيهَا رُؤَسَاؤُهُ الرَّسْمِيُّونَ إِلَّا كَلِمَةَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّهَا

تُعَظِّمُ بِهَا النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَإِنْ جَعَلَتْهَا بِمَعْنًى وَثَنِيٍّ يُخِلُّ بِعَظَمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَنِ اغْتَرَّ بِذَلِكَ فَشَيْطَانُهُ هُوَ الَّذِي يُوَسْوِسُ لَهُ وَيَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ، وَإِنَّهَا لَنُفُوسٌ مَا عَرَفَتْ عَظَمَةَ اللهِ وَلَا شَعَرَتْ بِالْحَيَاءِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهَا وَلَا ظَهَرَ فِي أَعْمَالِهَا أَثَرُ مَحَبَّتِهِ، وَلَا احْتِرَامُ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَمَا أَثَّرَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالْحُبُّ لَهُ وَالرَّجَاءُ بِفَضْلِهِ إِلَّا أُخِذَ دِينُهُ بِقُوَّةٍ وَجِدٍّ. وَآيَتُهُ بَذْلُ الْمَالِ وَالرُّوحِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَتَأْيِيدِ شَرِيعَتِهِ، لَا الِامْتِنَانُ عَلَيْهِ وَعَلَى رَسُولِهِ بِقَبُولِ لَقَبِ الْإِسْلَامِ، وَتَعْظِيمِهِ بِالْقَوْلِ وَالْخَيَالِ، دُونَ الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ عَدْلٌ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [٨٦: ١٣: ١٤] .

<<  <  ج: ص:  >  >>