وَمُغَالَبَةِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ، وَقَدْ يَدْفَعُهُ هَذَا الْجِهَادُ إِلَى الْأَثَرَةِ وَتَوْفِيرِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً وَيُلْجِئُهُ الظُّلْمُ إِلَى الظُّلْمِ فَيَأْتِيهِ مُتَعَلِّمًا إِيَّاهُ تَعَلُّمًا مُتَكَلِّفًا لَهُ تَكَلُّفًا، وَفِي نَفْسِهِ ذَلِكَ الْهَاتِفُ الْفِطْرِيُّ يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، وَهُوَ النِّبْرَاسُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي لَا يَنْطَفِئُ، فَإِذَا رَجَعَ الْإِنْسَانُ إِلَى أَصْلِ فِطْرَتِهِ لَا يَرَى إِلَّا الْخَيْرَ، وَلَا يَمِيلُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَإِذَا تَأَمَّلَ فِي الشَّرِّ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الطَّوَارِئِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَيْهَا لَا سِيَّمَا مَنْ يَنْشَأُ بَيْنَ قَوْمٍ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُمْ، وَأَشَدُّ مَا يَضُرُّ الْإِنْسَانَ فِي ذَلِكَ نَظَرُهُ إِلَى حَالِ غَيْرِهِ ; وَلِذَلِكَ أُمِرْنَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ نَنْظُرَ فِي شُئُونِ الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونَنَا وَهَذَا الْأَمْرُ خَاصٌّ بِالْأَفْرَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ نَظَرَ الْوَاحِدِ إِلَى مَنْ دُونَهُ يَجْعَلُهُ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيهِ مِنَ النِّعَمِ بَعِيدًا عَنِ الْحَسَدِ الَّذِي هُوَ مَنْبَعُ الشُّرُورِ، وَأَمَّا الْأُمَمُ فَيَنْبَغِي أَنْ نَنْظُرَ فِي حَالِ مَنْ فَوْقِنَا مِنْهَا لِأَجْلِ مُبَارَاتِهَا وَمُسَامَاتِهَا.
هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِإِيضَاحٍ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي الْخَيْرِ: كَسَبَتْ وَفِي الشَّرِّ اكْتَسَبَتْ وَكَانَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - يَرَى أَنَّ أَحَقَّ مَا يُتَعَجَّبُ لَهُ مِنْ حَالِ الْإِنْسَانِ كَثْرَةُ عَمَلِ الشَّرِّ وَقِلَّةُ عَمَلِ الْخَيْرِ، وَيُعَلِّلُ ذَلِكَ بِأَنَّ عَمَلَ الْخَيْرِ سَهْلٌ وَعَاقِبَتُهُ حَمِيدَةٌ، وَعَمَلَ الشَّرِّ عَسِرٌ وَمَغَبَّتُهُ ذَمِيمَةٌ، وَلَا عَجَبَ فِي تَعَجُّبِهِ، فَقَدْ كَانَ مَجْبُولًا مِنْ طِينَةِ الْخَيْرِ، سَلِيمَ الْفِطْرَةِ مِنْ عَوَارِضِ الشَّرِّ، حَتَّى لَمْ تُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ الشُّرُورُ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَالْمَسْأَلَةُ تَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْبَسْطِ لِكَثْرَةِ اشْتِبَاهِ النَّاسِ فِيهَا، وَلِشِّدَّةِ مَا عَارَضَنَا فِي تَقْرِيرِهَا الطُّلَّابُ فِي الدَّرْسِ، وَالْبَاحِثُونَ فِي الْمُحَاضَرَاتِ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَا هُوَ الشَّرُّ الْفِطْرِيُّ فِي الْبَشَرِ؟ لَيَقُولُنَّ: حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَالْغَضَبُ وَمَا يَنْشَأُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، وَلَوْلَا هَاتَانِ الْغَرِيزَتَانِ لَمَا جَلَبَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا، وَلَمَا دَفَعَ ضَرًّا، وَلَمَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ مَا نَرَى مِنْ أَسْرَارِ الطَّبِيعَةِ وَمَحَاسِنِ الْخَلِيقَةِ، بَلْ لَوْلَاهُمَا لَبَادَتِ
الْأَفْرَادُ وَانْقَرَضَ النَّوْعُ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِي الْفِطْرَةِ وَالدِّينِ وَالْمُرْشِدِ إِلَى كَمَالِهَا مَا يَكْفِي لِإِقَامَةِ الْمِيزَانِ الْقِسْطِ فِيهِمَا غَالِبًا، حَتَّى لَا يَغْلِبَ فِي الْأُمَّةِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، وَيَكُونُ الْخَيْرُ أَصْلًا عَامًّا، وَالشَّرُّ عَرَضًا مُفَارِقًا، وَالْأَصْلُ الَّذِي لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ جُبِلَ عَلَى أَلَّا يَعْمَلَ عَمَلًا إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ نَافِعٌ، وَأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ شَأْنُهُ فِي التَّرْكِ أَيْضًا، وَأَنَّ هِدَايَاتِهِ الْأَرْبَعَ: الْحِسَّ وَالْوِجْدَانَ وَالْعَقْلَ وَالدِّينَ كَافِيَةٌ لِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ كُلَّ خَيْرٍ نَافِعٌ، وَكُلَّ شَرٍّ ضَارٌّ، فَإِذَا قَصَّرَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْهِدَايَاتِ فَوَقَعَ فِي الشَّرِّ كَانَ وُقُوعُهُ فِيهِ أَثَرًا لِتَنَكُّبِ طَرِيقِ الْفِطْرَةِ لَا لِلسَّيْرِ عَلَى جَادَّتِهَا، وَأَكْثَرُ أَعْمَالِ النَّاسِ نَافِعَةٌ لَهُمْ غَيْرُ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي كَذِبِ الْأَطْفَالِ، وَمِنْهُ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَمَجَالِسِ الْبَحْثِ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الزِّنَا مَثَلًا، وَأَجَبْنَا بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمِيلُ بِفِطْرَتِهِ إِلَى الزِّنَا، وَإِنَّمَا يَمِيلُ إِلَى الْوِقَاعِ، وَهَذَا مِنَ الْخَيْرِ وَأَصُولِ الْكَمَالِ فِي الْفِطْرَةِ، وَإِنَّمَا الزِّنَا وُضِعَ لَهُ فِي غَيْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute