مِنَ التَّقْصِيرِ وَتَيْسِيرِ مَا قَدْ يُشَمُّ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ التَّعْسِيرِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِ الْغُفْرَانِ قَدْ أُذِنُوا بِأَنْ يُصْغُوا لِلَّهِ - تَعَالَى - بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الرَّأْفَةِ بِعِبَادِهِ، وَالْحِكْمَةِ فِي سِيَاسَتِهِمْ.
لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ قِيلَ: إِنَّ الْكَسْبَ وَالِاكْتِسَابَ وَاحِدٌ فِي اللُّغَةِ نُقِلَ عَنِ الْوَاحِدِيِّ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاكْتِسَابَ أَخَصُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ، وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الصَّوَابُ، وَهُوَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَالْفَرْقِ بَيْنَ عَمِلَ وَاعْتَمَلَ، فَكُلُّ مَنِ اكْتَسَبَ وَاعْتَمَلَ يُفِيدُ الِاخْتِرَاعَ وَالتَّكَلُّفَ، فَالْآيَةُ تُشِيرُ أَوْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِطْرَةَ الْإِنْسَانِ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ الشَّرَّ بِالتَّكَلُّفِ وَالتَّأَسِّي. وَالْمَعْنَى: أَنَّ لَهَا ثَوَابَ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ وَعَلَيْهَا عِقَابُ مَا اكْتَسَبَتْ مِنَ الشَّرِّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ خَيْرٌ بِالطَّبْعِ أَوْ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ؟ وَإِلَى أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَمْيَلُ بِفِطْرَتِهِ مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَّفِقُ لَهُ فِي تَرْبِيَّتِهِ، الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَا شَكَّ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى الْخَيْرِ مِمَّا أُودِعَ فِي طَبْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا فِيهِ نَفْعُ نَفْسِكَ وَنَفْعُ النَّاسِ. وَجُمَّاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تُحِبَّ لِأَخِيكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَالْإِنْسَانُ يَفْعَلُ الْخَيْرَ بِطَبْعِهِ، وَتَكُونُ فِيهِ لَذَّتُهُ، وَيَمِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ - تَعَالَى -؛ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ مَغْرُوسٌ فِي الطَّبْعِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ، وَأَقَلُّهُ الْبَشَاشَةُ وَالِارْتِيَاحُ لِلْمُنْعِمِ وَلَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَرْتَاحُ إِلَيْهِ وَيَرَاهُ بِعَيْنِ الرِّضَا، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ لِلنَّفْسِ بِأَسْبَابٍ لَيْسَتْ مِنْ طَبِيعَتِهَا وَلَا مُقْتَضَى فِطْرَتِهَا، وَمَهْمَا كَانَ الْإِنْسَانُ شِرِّيرًا فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرَّ مَمْقُوتٌ فِي نَظَرِ النَّاسِ وَصَاحِبَهُ مَهِينٌ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ الطِّفْلَ يَنْشَأُ عَلَى الصِّدْقِ حَتَّى يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنَ النَّاسِ فَيَتَعَلَّمُهُ، وَإِذَا رَأَى إِعْجَابَ النَّاسِ بِكَلَامِ مَنْ يَصِفُ شَيْئًا يَزِيدُ فِيهِ وَيُبَالِغُ كَاذِبًا اسْتَحَبَّ الْكَذِبَ وَافْتَرَاهُ لِيَنَالَ الْحُظْوَةَ عِنْدَ النَّاسِ، وَيَحْظَى بِإِعْجَابِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَشْعُرُ بِقُبْحِهِ حَتَّى إِذَا نُبِزَ أَمَامَهُ أَحَدٌ بِلَقَبِ الْكَاذِبِ أَوِ الْكَذَّابِ أَحَسَّ بِمَهَانَةِ نَفْسِهِ وَخِزْيِهَا، وَهَكَذَا شَأْنُ الْإِنْسَانِ عِنْدَ اقْتِرَافِ كُلِّ شَرٍّ يَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِقُبْحِهِ وَيَجِدُ مِنْ أَعْمَاقِ سَرِيرَتِهِ هَاتِفًا يَقُولُ لَهُ: لَا تَفْعَلْ وَيُحَاسِبُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ وَيُوَبِّخُهُ إِلَّا فِي النَّادِرِ، وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ يَصِيرَ الْإِنْسَانُ شَرًّا مَحْضًا - يُرِيدُ أَنَّهُ قَلَّمَا يَأْلَفُ أَحَدٌ الشَّرَّ وَيَنْطَبِعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ طَبْعًا لَهُ لَا تَشْعُرُ نَفْسُهُ بِقُبْحِهِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَلَا فِي أَثْنَائِهِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْمِلْيُونِ
مِنَ النَّاسِ شِرِّيرٌ وَاحِدٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ شَرٌّ قَبِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ شِرِّيرٌ بِالطَّبْعِ أَرَادُوا مِنَ الطَّبْعِ مَا يَرَوْنَ عَلَيْهِ غَالِبَ النَّاسِ وَلَمْ يُلَاحِظُوا فِيهِ مَعْنَى الْغَرِيزَةِ وَمَنَاشِئَ الْعَمَلِ مِنَ الْفِطْرَةِ، ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَأُ بَيْنَ مُنَازَعَاتِ الْكَوْنِ وَفَوَاعِلِ الطَّبِيعَةِ وَأَحْيَائِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute