للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَتَقَدَّمَتِ الْبَعْثَةُ أَمْ تَأَخَّرَتْ. وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [٢: ٢٥٣] فَإِنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ فِي أَصْلِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. أَقُولُ: وَفِي هَذَا مَزِيَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ. وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْقِلُوا مَعْنَى الرِّسَالَةِ فِي نَفْسِهَا إِذْ لَوْ عَقَلُوهَا لَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَنْ أُوتُوهَا، وَقَدْ رَأَيْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّصَارَى يُدْرِكُ هَذِهِ الْمَزِيَّةَ.

آمَنُوا بِمَا ذُكِرَ قَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّفْرِيقِ: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أَيْ بُلِّغْنَا فَسَمِعْنَا الْقَوْلَ سَمَاعَ وَعْيٍ وَفَهْمٍ، وَأَطَعْنَا مَا أُمِرْنَا بِهِ فِيهِ، إِطَاعَةَ إِذْعَانٍ وَانْقِيَادٍ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ: وَقَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ مِرَارًا أَنَّ فَرْقًا بَيْنَ إِيمَانِ الْإِذْعَانِ وَبَيْنَ مَا يُسَمِّيهِ

الْإِنْسَانُ إِيمَانًا وَاعْتِقَادًا؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَقَبِلَهُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ نَاقِضًا، فَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ اعْتِقَادًا حَقِيقِيًّا، وَقَلَّمَا يَنْشَأُ عَنْهُ عَمَلٌ؛ لِأَنَّهُ تَقْلِيدٌ، بَقَاؤُهُ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ نَاقِضِهِ، وَالْإِذْعَانُ يُنَبِّهُ النَّفْسَ دَائِمًا إِلَى مَا تُذْعِنُ لَهُ، وَيَبْعَثُهَا دَائِمًا إِلَى الْعَمَلِ بِهِ إِلَّا إِذَا عَرَضَ مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الْمَرْءُ مِنَ الْمَوَانِعِ ; وَلِهَذَا عَطْفَ أَطَعْنَا عَلَى سَمِعْنَا. وَلَمَّا كَانَ الْعَامِلُ الْمُذْعِنُ الْمُخْلِصُ يُرَاقِبُ قَلْبَهُ وَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى التَّقْصِيرِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ وَيَلُومُهَا عَلَى مَا دُونَ الْكَمَالِ مِنَ الْأَعْمَالِ كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا مَعَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أَيْ يَسْأَلُونَهُ - تَعَالَى - أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ مَا عَسَاهُ يَطْرَأُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعُوقُهَا عَنِ الرُّقِيِّ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ الَّذِي دَعَاهَا إِلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَا، وَالْغُفْرَانُ كَالْمَغْفِرَةِ: السَّتْرُ، وَسَتْرُ الذَّنْبِ يَكُونُ بِعَدَمِ الْفَضِيحَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَتَرْكِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ هَذَا بِالتَّوْبَةِ وَإِتْبَاعِ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ مَعَ الدُّعَاءِ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْإِيمَانِ وَبِذَلِكَ يُمْحَى أَثَرُ الذُّنُوبِ مِنَ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا فَيُرْجَى أَنْ تَصِيرَ إِلَيْهِ - تَعَالَى - فِي الْآخِرَةِ نَقِيَّةً زَكِيَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَصِيرَ إِلَيْهِ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ وَرَاءَهُ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِ النُّفُوسِ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ.

لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَا يُحَاسِبُهَا إِلَّا عَلَى مَا كَلَّفَهَا، وَالتَّكْلِيفُ: هُوَ الْإِلْزَامُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: مَا تَسَعُهُ قُدْرَةُ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ وَلَا عُسْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا دُونُ مَدَى طَاقَتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُ - تَعَالَى - وَسُنَّتَهُ فِي شَرْعِ الدِّينِ أَلَّا يُكَلِّفَ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ لَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ. وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَلْتَئِمُ مَعَ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْكَلَامَ فِي شَأْنِهِ وَسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي التَّكْلِيفِ، وَسَتَأْتِي تَتِمَّةُ هَذَا الْبَحْثِ قَرِيبًا. وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لَمْ يَقَعْ كَمَا قَالُوا، امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَاسِخَةً لِمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [٣: ١٠٢] كَمَا قِيلَ.

وَفِي الْجُمْلَةِ وَجْهَانِ قِيلَ: هِيَ ابْتِدَاءُ خَبَرٍ مِنَ اللهِ - تَعَالَى - كَأَنَّهُ بِشَارَةٌ بِغُفْرَانِ مَا طَلَبُوا غُفْرَانَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>