للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قِيلَ: إِنَّ الْآيَتَيْنِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِمَا قَبْلَهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ كَمَالِ الْأُلُوهِيَّةِ الَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ مَا يُنَاسِبُهُ أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْحِسَابِ وَالْعِلْمِ بِالْخَفَايَا الْمُقْتَضِي لِلْإِيمَانِ وَالدُّعَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِبَيَانِ كَوْنِ الْقُرْآنِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَذِكْرِ صِفَاتِ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الَّتِي أَخَذُوا بِهَا وَخَبَرِ سَائِرِ النَّاسِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُرْتَابِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِيهَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ وَمُحَاجَّةِ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهِ مِنْ بَعْضِ الْأُمَمِ، نَاسَبَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ خَتْمُ السُّورَةِ بِالشَّهَادَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِيمَانِ وَهُمُ الْمُهْتَدُونَ تَمَامَ الِاهْتِدَاءِ، وَلَقَّنَهُمْ مِنَ الدُّعَاءِ مَا سَتَعْلَمُ حِكْمَتَهُ وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ تَعَالَى:

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ أَيْ صَدَّقَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ وَالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ - عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ وَقَدْ شَهِدَ لَهُمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ أَثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمِ الزَّكِيَّةِ وَهِمَمِهِمُ الْعَلِيَّةِ، وَأَعْمَالِهِمُ الْمَرْضِيَّةِ وَاللهُ أَكْبَرُ شَهَادَةً، وَقَدِ اعْتَرَفَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْبَاحِثِينَ فِي شُئُونِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلُومِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِ أُمَمِ الشَّرْقِ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ

وَمُوحًى إِلَيْهِ، وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ ادَّعَى الْوَحْيَ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ لِنَشْرِ حِكْمَتِهِ وَالْإِقْنَاعِ بِفَلْسَفَتِهِ أَوْ لِنَيْلِ السُّلْطَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِهِ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَكِتَابِهِ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمْ آمَنَ بِوُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَبِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ الرُّسُلِ مِنَ الْبَشَرِ يَنْزِلُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ الْإِيمَانَ بِذَوَاتِهِمْ، بَلِ الْإِيمَانَ بِسِفَارَتِهِمْ فِي الْوَحْيِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنَ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ ; وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِحَقِّيَّةِ كُتُبِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ، لَكِنْ مَا يُفِيدُهُ التَّرْتِيبُ وَالنَّظْمُ مِنْ إِرَادَةِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ حَيْثُ هُمْ حَمَلَةُ الْوَحْيِ إِلَى الرُّسُلِ لَا يُنَافِي مُلَاحَظَةَ الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ بَلْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَأَمَّا الْبَحْثُ عَنْ ذَوَاتِهِمْ مَا هِيَ وَعَنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كَيْفَ هِيَ؟ فَهُوَ مِمَّا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ فِي دِينِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ جِنْسُهَا ; أَيْ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا فِيمَا أَجْمَلَهُ الْقُرْآنُ وَتَفْصِيلِيًّا فِيمَا فَصَّلَهُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا وَيَقُولُونَ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ قَرَأَ يَعْقُوبُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ (لَا يُفَرِّقُ) وَهُوَ يَعُودُ عَلَى لَفْظِ " كَلٌّ " وَذِكْرُ الْمَقُولِ مَعَ حَذْفِ الْقَوْلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، وَلَهُ مَوَاضِعُ فِي الْكِتَابِ لَا يَقِفُ الْفَهْمُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالْمَعْنَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُمْ فِي الرِّسَالَةِ وَالتَّشْرِيعِ سَوَاءٌ، كَثُرَ قَوْمُ الرَّسُولِ مِنْهُمْ أَمْ قَلُّوا، وَكَثُرَتِ الْأَحْكَامُ الْمُنَزَّلَةُ عَلَيْهِ أَمْ قَلَّتْ،

<<  <  ج: ص:  >  >>