للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الزَّيْغِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُجَسِّمَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَرُوحٌ مِنْهُ فَيَأْخُذُونَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْأَصْلِ الْمُحْكَمِ لِيَفْتِنُوا النَّاسَ بِدَعْوَتِهِمْ إِلَى أَهْوَائِهِمْ وَيَخْتَلِبُوهُمْ بِشُبْهَتِهِمْ فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رُوحٌ وَالْمَسِيحَ رُوحٌ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ وَجِنْسُهُ لَا يَتَبَعَّضُ فَهُوَ هُوَ. فَالتَّأْوِيلُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِرْجَاعِ. أَيْ أَنَّهُمْ يُرْجِعُونَهُ إِلَى أَهْوَائِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ لَا إِلَى الْأَصْلِ الْمُحْكَمِ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ، وَأَمَّا ابْتِغَاءُ تَأْوِيلِهِ فَهُوَ أَنَّهُمْ يُطَبِّقُونَهُ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَيُحَوِّلُونَ خَبَرَ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَخْبَارَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَنْ مَعَانِيهَا وَيَصْرِفُونَهَا إِلَى مَعَانٍ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا لِيُخْرِجُوا النَّاسَ عَنِ الدِّينِ بِالْمَرَّةِ، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [٣٦: ٧٩] وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ إِنَّ قَوْلَهُ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ، وَبَعْضُهُمْ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ.

قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: اسْتَدَلَّ الَّذِينَ قَالُوا بِالْوَقْفِ عِنْدَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَبِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافًا بِأَدِلَّةٍ (مِنْهَا) أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - ذَمَّ الدِّينِ يَتَّبِعُونَ تَأْوِيلَهُ وَ (مِنْهَا) قَوْلُهُ: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ التَّسْلِيمُ الْمَحْضُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ عَرَفَ الشَّيْءَ وَفَهِمَهُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَحْضِ وَهَذَا رَأْيُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَائِشَةَ، وَذَهَبَ ابْنُ

عَبَّاسٍ وَجُمْهُورٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي. كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ أَنَا أَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ". وَقَالُوا فِي اسْتِدْلَالِ أُولَئِكَ: إِنَّ اللهَ - تَعَالَى - إِنَّمَا ذَمَّ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ التَّأْوِيلَ بِذَهَابِهِمْ فِيهِ إِلَى مَا يُخَالِفُ الْمُحْكَمَاتِ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الْفِتْنَةَ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لَيْسُوا كَذَلِكَ ; فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْيَقِينِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا زِلْزَالَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، فَهَؤُلَاءِ يُفِيضُ اللهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ فَهْمَ الْمُتَشَابِهِ بِمَا يَتَّفِقُ مَعَ الْمُحْكَمِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا عَلَى التَّسْلِيمِ الْمَحْضِ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَلَّمُوا بِالْمُتَشَابِهِ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ لِعِلْمِهِمْ بِاتِّفَاقِهِ مَعَ الْمُحْكَمِ فَهُمْ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَوُقُوفِهِمْ عَلَى حَقِّ الْيَقِينِ لَا يَضْطَرِبُونَ وَلَا يَتَزَعْزَعُونَ بَلْ يُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَبِذَاكَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ عِنْدِ اللهِ رَبِّنَا، وَلَا غَرْوَ فَالْجَاهِلُ فِي اضْطِرَابٍ دَائِمٍ وَالرَّاسِخُ فِي ثَبَاتٍ لَازِمٍ. وَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى يَنْبُوعِ الْحَقِيقَةِ لَا تُشْتَبَهُ عَلَيْهِ الْمَجَارِي فَهُوَ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِذَاتِهِ وَيُرْجِعُ كُلَّ قَوْلٍ إِلَيْهِ قَائِلًا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.

هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ ثُمَّ قَالَ: بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَوْ مَا خَالَفَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْمُرَادَ مِنْهُ وَوُرُودُ الْمُتَشَابِهِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْقُرْآنِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَمَقَاصِدِ الْوَحْيِ الْإِخْبَارُ بِأَحْوَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>