للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إِنَّ أَحَدًا لَمْ يَفْهَمِ الْقُرْآنَ فِي زَمَنِ التَّنْزِيلِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّ اللهَ وَعَدَ بِتَأْوِيلِهِ فَلَا بُدَّ مِنِ انْتِظَارِ مَنْ يَبْعَثُهُ اللهُ - تَعَالَى - بِهَذَا التَّأْوِيلِ، وَالْبَابِيَّةُ - وَهُمْ آخِرُ فِرْقَةٍ ظَهَرَتْ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ - تَدَّعِي أَنَّ الْبَابَ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْعُودُ بِهِ، وَالْبَهَائِيَّةُ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: بَلْ هُوَ الْبَهَاءُ، وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ دُعَاتِهِمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [٧: ٥٣] الْآيَةَ. وَقَدْ ذَكَرْتُ آنِفًا، فَقُلْتُ لَهُ تَأْوِيلُهُ مَا وَعَدَ بِهِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [٤٧: ١٨] وَقَوْلِهِ: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ [٣٦: ٤٩] فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ هُوَ تَأْوِيلُهُ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مَفْهُومٌ إِنِ اشْتَبَهَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ عَلِمَهُ غَيْرُهُمْ. قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ بَعْدَ كَلَامٍ فِي ذَلِكَ مَا نَصَّهُ:

" وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللهُ أَنْزَلَ كَلَامًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ وَجَمِيعُ الْأُمَّةِ لَا يَعْلَمُونَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهَذَا الْقَوْلُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ هَذَا تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ لَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، أَوْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ مَعْنَيَانِ يَعْلَمُونَ أَحَدَهُمَا وَلَا يَعْلَمُونَ الْآخَرَ، وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْمُتَشَابِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ أَنْ يُقَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ كَانَ هَذَا الْإِثْبَاتُ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ النَّفْيِ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ السَّلَفِ، عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مِمَّا يُمْكِنُ عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ وَتَدَبُّرُهُ، وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِهِ، وَلَيْسَ مَعَنَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ لَا يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ الْمُتَشَابِهِ، فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ - مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ - وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَنَقَلُوا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَّهُ قَالَ: " أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ " وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِيمَا كَتَبَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَقَوْلُهُ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ أَنَّهَا تَأَوَّلَتْ ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى مَعْنَاهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَهُ تَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَذْمُومَ تَأْوِيلُهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، فَأَمَّا تَفْسِيرُهُ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فَهَذَا مَحْمُودٌ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ

وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ الصَّحِيحَ لِلْمُتَشَابِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ التَّفْسِيرُ فِي لُغَةِ السَّلَفِ ; وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحْمَدُ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٍ لَا يَعْرِفُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ مَعْنَاهَا بَلْ يَتْلُونَ لَفْظًا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ.

وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالْمُنْتَصِرِينَ لِمَذَاهِبِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَالَ فِيهِ صَاحِبُ كِتَابِ التَّحْدِيثِ بِمَنَاقِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ: وَهُوَ أَحَدُ أَعْلَامِ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، أَجْوَدُهُمْ تَصْنِيفًا، وَأَحْسَنُهُمْ تَرْصِيفًا، لَهُ زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>