للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(التَّصَرُّفُ السَّادِسُ: الِتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُجْتَمِعَاتِ) فَكَمَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقَةٍ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعَةٍ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ أَوْ لَاحِقَةٍ لَهَا مُؤَثِّرَةٌ فِي تَفْهِيمِ مَعْنَاهُ مُطْلَقًا وَمُرَجِّحَةٌ الِاحْتِمَالَ الضَّعِيفَ فِيهِ، فَإِذَا فُرِّقَتْ سَقَطَتْ دَلَالَتُهَا، مِثَالُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [٦: ١٨] لَا تُسَلَّطُ عَلَى أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: هُوَ فَوْقَ، لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ الْقَاهِرُ قَبْلَهُ ظَهَرَتْ دَلَالَةُ الْفَوْقِ عَلَى الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي لِقَاهِرٍ مَعَ الْمَقْهُورِ، وَهِيَ فَوْقِيَّةُ الرُّتْبَةِ، وَلَفْظُ (الْقَاهِرِ) يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ غَيْرِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَوْقَ عِبَادِهِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْعُبُودِيَّةِ فِي وَصْفِهِ فِي اللهِ فَوْقَهُ يُؤَكِّدُ احْتِمَالَ فَوْقِيَّةِ السِّيَادَةِ، إِذْ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: زَيْدٌ فَوْقَ عَمْرٍو قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ تَفَاوُتُهُمَا فِي مَعْنَى السِّيَادَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ أَوْ غَلَبَةِ الْقَهْرِ أَوْ نُفُوذِ الْأَمْرِ بِالسُّلْطَةِ أَوْ بِالْأُبُوَّةِ أَوْ بِالزَّوْجِيَّةِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ يَغْفُلُ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ فَضْلًا عَنِ

الْعَوَامِّ، فَكَيْفَ يُسَلَّطُ الْعَوَامُّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ وَالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّغْيِيرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الدَّقَائِقِ بَالَغَ السَّلَفُ فِي الْجُمُودِ وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَوَارِدِ التَّوْقِيفِ كَمَا وَرَدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ، وَالْحَقُّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابُ مَا رَأَوْهُ، فَأَهَمُّ الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِيَاطِ مَا هُوَ تَصَرُّفُهُ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحَقُّ الْمَوَاضِعِ بِإِلْجَامِ اللِّسَانِ وَتَقْيِيدِهِ عَنِ الْجَرَيَانِ فِيمَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ، وَأَيُّ خَطَرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْكُفْرِ؟

(الْوَظِيفَةُ السَّادِسَةُ فِي الْكَفِّ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ) وَأَعْنِي بِالْكَفِّ كَفَّ الْبَاطِنِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّصَرُّفِ، وَهَذَا أَثْقَلُ الْوَظَائِفِ وَأَشَدُّهَا، وَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ الزَّمِنِ أَلَّا يَخُوضَ غَمْرَةَ الْبِحَارِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاضَاهُ طَبْعُهُ أَنْ يَغُوصَ فِي الْبِحَارِ وَيُخْرِجَ دُرَرَهَا وَجَوَاهِرَهَا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّهُ نَفَاسَةُ جَوَاهِرِهَا مَعَ عَجْزِهِ عَنْ نَيْلِهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَجْزِهِ وَكَثْرَةِ مَعَاطِبِهَا وَمَهَالِكِهَا وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ نَفَائِسُ الْبِحَارِ فَمَا فَاتَهُ إِلَّا زِيَادَاتٌ وَتَوَسُّعَاتٌ فِي الْمَعِيشَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا، فَإِنْ غَرِقَ أَوِ الْتَقَمَهُ تَمْسَاحٌ فَاتَهُ أَصْلُ الْحَيَاةِ، فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ قَلْبُهُ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْبَحْثِ فَمَا طَرِيقُهُ؟ قُلْتُ: طَرِيقُهُ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِعِلْمٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ لُغَةٍ أَوْ نَحْوٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ طِبٍّ أَوْ فِقْهٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِحِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَلَوِ الْحِرَاثَةَ وَالْحِيَاكَةَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلَعِبٍ وَلَهْوٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْبَعِيدِ غَوْرُهُ وَعُمْقُهُ، الْعَظِيمُ خَطَرُهُ وَضَرَرُهُ، بَلْ لَوِ اشْتَغَلَ الْعَامِّيُّ بِالْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ رُبَّمَا كَانَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى -، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُ الْفِسْقُ، وَهَذَا عَاقِبَتُهُ الشِّرْكُ. وَإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [٤: ٤٨] فَإِنْ قُلْتَ: الْعَامِّيُّ إِذَا لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ الدَّلِيلُ، فَإِنْ جَوَّزْتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصْتَ لَهُ فِي التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؟ الْجَوَابُ: أَنِّي أُجَوِّزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ

<<  <  ج: ص:  >  >>