وَمِنْهَا - وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ - إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ يَتَضَمَّنُ وَعِيدَ الْكَافِرِينَ جَاءَ بَعْدَهُ بِوَعْدِ الْمُتَّقِينَ، وَجَعَلَ لَهُ مُقَدِّمَةً بَيَّنَ فِيهَا جَمِيعَ أُصُولِ اللَّذَّاتِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا النَّاسُ بِحَسَبِ غَرَائِزِهِمْ تَمْهِيدًا لِتَعْظِيمِ شَأْنِ مَا بَعْدَهَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. أَقُولُ: يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ ذَمَّهَا وَالتَّنْفِيرَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ التَّحْذِيرُ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ هِيَ غَايَةَ الْحَيَاةِ.
وَالنَّاسُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ هُمُ الْمُكَلَّفُونَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِرْشَادِهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِلْبَحْثِ فِي الْأَطْفَالِ هُنَا.
وَالشَّهَوَاتُ: جَمْعُ شَهْوَةٍ وَهِيَ انْفِعَالُ النَّفْسِ بِالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا تَسْتَلِذُّهُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْمُشْتَهَيَاتُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، وَهِيَ شَائِعَةُ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: هَذَا الطَّعَامُ شَهْوَةُ فُلَانٍ، أَيْ مُشْتَهَاهُ. وَمَعْنَى تَزْيِينِ حُبِّهَا لَهُمْ: أَنَّ حُبَّهَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ شَيْنًا (قَبْحًا) وَلَا غَضَاضَةً، وَقَدْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ الشَّيْءَ وَهُوَ يَرَاهُ مِنَ الشَّيْنِ لَا مِنَ الزَّيْنِ وَمِنَ الضَّارِّ لَا مِنَ النَّافِعِ، وَيَوَدُّ لِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ، وَمَثَّلَ لِذَلِكَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ بِحُبِّ الْمُسْلِمِ لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِحُبِّ بَعْضِ النَّاسِ لِلدُّخَانِ عَلَى تَأَذِّيهِ مِنْهُ، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْمُحِبَّيْنِ يَوَدُّ لَوِ انْقَلَبَ حُبُّهُ كُرْهًا وَبُغْضًا، وَمَنْ أَحْبَّ شَيْئًا وَلَمْ يُزَيَّنْ لَهُ يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ حُبِّهِ يَوْمًا، وَأَمَّا مَنْ زُيِّنَ لَهُ حُبُّهُ الشَّيْءَ فَلَا يَكَادُ يَرْجِعُ عَنْهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى الْحُبِّ، وَصَاحِبُهُ لَا يَكَادُ يَفْطِنُ لِقُبْحِهِ وَضَرَرِهِ إِنْ كَانَ قَبِيحًا أَوْ ضَارًّا، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ وَإِنْ تَأَذَّى بِهِ. قَالَ الْمَجْنُونُ:
وَقَالُوا لَوْ تَشَاءُ سَلَوْتَ عَنْهَا ... فَقُلْتُ لَهُمْ: وَإِنِّي لَا أَشَاءُ
وَلِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [٤٧: ١٤] وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي إِسْنَادِ التَّزْيِينِ فِي هَذَا الْمَقَامِ
فَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الشَّيْطَانِ ; لِأَنَّ حُبَّ الشَّهَوَاتِ مَذْمُومٌ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أُطْلِقَتْ هُنَا فَدَخَلَ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتُ فِي رَأْيِهِمْ ; وَلِأَنَّ حُبَّ كَثْرَةِ الْمَالِ مَذْمُومٌ فِي الدِّينِ بِحَسَبِ فَهْمِهِمْ لَهُ ; وَلِأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهِيَ مَذْمُومَةٌ عِنْدَهُمْ ; وَلِأَنَّهُ فَضَّلَ عَلَيْهِ مَا أَعَدَّهُ لِلْمُتَّقِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُؤْثَرُ هَذَا الْإِسْنَادُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى اللهِ - تَعَالَى - ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَبَاحَ الزِّينَةَ وَالطَّيِّبَاتِ وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [٧: ٣٢] فَجَعَلَ إِبَاحَتَهَا فِي الدُّنْيَا غَيْرَ مُنَافِيَةٍ لِنَيْلِهَا فِي الْآخِرَةِ ; وَلِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَسَائِلَ لِلْآخِرَةِ بِتَكْثِيرِ النَّسْلِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ وَالْجِهَادِ، وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَسَّمَ الشَّهَوَاتِ إِلَى مَحْمُودَةٍ وَمَذْمُومَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ. وَقَالَ: إِنَّ اللهَ زَيَّنَ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ، وَالشَّيْطَانَ زَيَّنَ الْقِسْمَ الثَّانِي. أَقُولُ: وَغَفَلَ الْجَمِيعُ عَنْ كَوْنِ الْكَلَامِ فِي طَبِيعَةِ الْبَشَرِ وَبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ لَا فِي جُزْئِيَّاتِهِ وَأَفْرَادِ وَقَائِعِهِ. فَالْمُرَادُ أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - أَنْشَأَ النَّاسَ عَلَى هَذَا وَفَطَرَهُمْ عَلَيْهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute