للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ إِسْنَادُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ مَا قَدْ يُعَدُّ هُوَ مِنْ أَسْبَابِهِ كَالْوَسْوَسَةِ الَّتِي تُزَيِّنُ لِلْإِنْسَانِ عَمَلًا قَبِيحًا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يُسْنِدْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِلَّا تَزْيِينَ الْأَعْمَالِ. قَالَ - تَعَالَى -: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [٨: ٤٨] الْآيَةَ، وَقَالَ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٦: ٤٣] وَأَمَّا الْحَقَائِقُ وَطَبَائِعُ الْأَشْيَاءِ فَلَا تُسْنَدُ إِلَّا إِلَى الْخَالِقِ الْحَكِيمِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ -: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [١٨: ٧] وَقَالَ: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [٦: ١٠٨] فَالْكَلَامُ فِي الْأُمَمِ كَلَامٌ فِي طَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ أُخْرَى.

ثُمَّ بَيَّنَ الْمُشْتَهَيَاتِ الَّتِي يُحِبُّهَا النَّاسُ وَحُبُّهَا مُزَيَّنٌ لَهُمْ وَلَهُ مَكَانَةٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ بِقَوْلِهِ: مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ فَهَذِهِ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: (أَوَّلُهَا) النِّسَاءُ وَحُبُّهُنَّ لَا يَعْلُوهُ حُبٌّ لِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَهُنَّ مَطْمَحُ النَّظَرِ وَمَوْضِعُ الرَّغْبَةِ وَسَكَنُ النَّفْسِ وَمُنْتَهَى الْأُنْسِ، وَعَلَيْهِنَّ يُنْفَقُ أَكْثَرُ مَا يَكْسِبُ الرِّجَالُ فِي كَدِّهِمْ وَكَدْحِهِمْ، فَكَمِ افْتَقَرَ فِي

حُبِّهِنَّ غَنِيٌّ! وَكَمِ اسْتَغْنَى بِالسَّعْيِ لِلْحُظْوَةِ عِنْدَهُمْ فَقِيرٌ! وَكَمْ ذَلَّ بِعِشْقِهِنَّ عَزِيزٌ! وَكَمُ ارْتَفَعَ فِي طَلَبِ قُرْبِهِنَّ وَضِيعٌ! ! وَلَعَلَّ فِي الْقَارِئِينَ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ يَغْنَى الْفَقِيرُ وَيَرْتَفِعُ الْوَضِيعُ بِسَبَبِ حُبِّ النِّسَاءِ - إِذَا كَانَ لَا يُوجَدُ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ كَيْفَ يَذِلُّ الْعَاشِقُ وَيَفْتَقِرُ - فَنَقُولُ: إِنَّ مَنْ يُحِبُّ ذَاتَ شَرَفٍ وَرِفْعَةٍ وَيَرَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاقْتِرَانِ بِهَا إِلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَتَسَنُّمِ غَارِبِ الْمَعَالِي يُوَجِّهُ جَمِيعَ قُوَاهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَنَالَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُبَّ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ عَلَى أَنَّ حُبَّهُنَّ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِمْ لَهُنَّ، وَلَكِنَّ الْحُبَّ لَا يُبَرِّحُ بِالنِّسَاءِ تَبْرِيحَهُ بِالرِّجَالِ ; فَالْمَرْأَةُ أَقْدَرُ عَلَى ضَبْطِ حُبِّهَا وَكِتْمَانِهِ وَضَبْطِ نَفْسِهَا وَحِفْظِ مَالِهَا وَإِنَّكَ لَتَسْمَعُ بِأَخْبَارِ الْمِئِينَ وَالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ افْتَقَرُوا أَوِ احْتُقِرُوا أَوْ جُنُّوا فِي حُبِّ النِّسَاءِ، وَلَا تَجِدُ فِي مُقَابَلَتِهِمْ عَشْرُ نِسْوَةٍ قَدْ مُنِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي حُبِّ الرِّجَالِ. ثُمَّ إِنَّ الرِّجَالَ هُمُ الْقَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ لِقُوَّتِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْحِمَايَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِسْرَافُهُمْ فِي الْحُبِّ وَاسْتِهْتَارُهُمْ فِي الْعِشْقِ لَهُ الْأَثَرُ الْعَظِيمُ فِي شُئُونِ الْأُمَّةِ وَفِي إِضَاعَةِ الْحَقِّ أَوْ حِفْظِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ حُبَّ الْوَلَدِ أَشَدُّ مِنْ حُبِّ الْمَرْأَةِ فَلِمَاذَا قَدَّمَ ذِكْرَ النِّسَاءِ؟ أَقُلْ: إِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُبَّ الْوَلَدِ - وَإِنْ كَانَ لَا يَزُولُ وَحُبُّ الْمَرْأَةِ قَدْ يَزُولُ - لَا يَعْظُمُ فِيهِ الْغُلُوُّ وَالْإِسْرَافُ كَحُبِّهَا، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ جَنَى عِشْقُهُ لِلْمَرْأَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ حَتَّى إِنْ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ الَّذِينَ تَزَوَّجُوا بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ، فَعَشِقُوا وَاحِدَةً وَمَلُّوا أُخْرَى قَدْ أَهْمَلُوا تَرْبِيَةَ أَوْلَادِ الْمَمْلُولَةِ، وَحَرَمُوهُمُ الرِّزْقَ مِنْ حَيْثُ أَفَاضُوا نَصِيبَهُمْ عَلَى أَوْلَادِ الْمَحْبُوبَةِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَحْرِيمِ التَّزَوُّجِ بِأَكْثَرِ مِنْ وَاحِدَةٍ عَلَى مَنْ يَخَافُ أَلَّا يَعْدِلَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُوقِنُ بِذَلِكَ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِ؟ وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ عَزِيزٍ يَعِيشُ أَوْلَادُهُ عِيشَةَ الْفُقَرَاءِ الْأَذِلَّاءِ لِعِشْقِ وَالِدِهِمْ لِغَيْرِ أُمِّهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>