(النَّوْعُ السَّادِسُ الْحَرْثُ) : أَيِ الزَّرْعِ وَالنَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ قِوَامُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ. وَإِنَّمَا جَعَلَهُ آخِرَ الْأَنْوَاعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُهَا فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِارْتِفَاقُ بِهِ أَعَمَّ كَانَتْ زِينَتُهُ فِي الْقُلُوبِ أَقَلَّ، فَهُوَ قَلَّمَا يَكُونُ مَانِعًا لِلْإِنْسَانِ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ، أَوْ صَادًّا عَنِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ. وَإِنَّ مِنَ النِّعَمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الْحَرْثِ وَأَعَمُّ وَأَشْمَلُ، وَهُوَ الْهَوَاءُ الَّذِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْأَحْيَاءُ لَحْظَةً وَاحِدَةً سَوَاءٌ مِنْهَا النَّبَاتُ
وَالْحَيَوَانُ ; وَهُوَ لِذَلِكَ لَا فِتْنَةَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِهِ، وَقَلَّمَا يُفَكِّرُ الْإِنْسَانُ بِغِبْطَتِهِ بِهِ أَوْ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْأَنْوَاعِ السِّتَّةِ هُوَ مَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا - أَيِ الْأُولَى - وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَرْجِعِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّاسِ وَبَعْثِهِمْ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا كُلَّ هَمِّهِمْ فِي هَذَا الْمَتَاعِ الْقَرِيبِ الْعَاجِلِ بِحَيْثُ يَشْغَلُهُمْ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي الْآجِلِ، كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ.
فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا شَرَحْتُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الشَّهَوَاتِ بَيَانٌ لِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ النَّاسَ مِنْ حُبِّهَا وَزَيَّنَهُ فِي نُفُوسِهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَذْكِيرِهِمْ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا لَا لِبَيَانِ قُبْحِهَا فِي نَفْسِهَا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْجَاهِلُ، فَإِنَّ اللهَ - تَعَالَى - مَا فَطَرَ النَّاسَ عَلَى شَيْءٍ قَبِيحٍ بَلْ خَلَقَهُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَلَا جَعَلَ دِينَهُ مُخَالِفًا لِفِطْرَتِهِ بَلْ مُوَافِقًا لَهَا كَمَا قَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [٣٠: ٣٠] وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ النِّسَاءِ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ مَذْمُومًا، وَهُوَ وَسِيلَةُ إِتْمَامِ حِكْمَتِهِ - تَعَالَى - فِي بَقَاءِ النَّوْعِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُسَمَّى، وَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ - تَعَالَى - الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [٣٠: ٢١] وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّهُنَّ، وَكَيْفَ يَكُونُ حُبُّ الْمَالِ مَذْمُومًا لِذَاتِهِ وَاللهُ - تَعَالَى - قَدْ جَعَلَ بَذْلَ الْمَالِ مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ وَهُوَ - تَعَالَى - يَنْهَى عَنِ الْإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ فِي إِنْفَاقِهِ كَمَا يَنْهَى عَنِ الْبُخْلِ بِهِ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَى نَبِيِّهِ بِأَنَّهُ وَجَدَهُ عَائِلًا أَيْ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ، وَجَعَلَ الْمَالَ قِوَامًا لِلْأُمَمِ وَمُعَزِّزًا لِلدِّينِ وَوَسِيلَةً لِإِقَامَةِ رُكْنَيْنِ مِنْ أَرْكَانِهِ وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ - تَعَالَى -، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَا أَرَانِي فِي حَاجَةٍ إِلَى الْكَلَامِ فِي حُبِّ الْبَنِينَ وَالْخَيْلِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ; فَإِنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا لِلْغَالِينَ فِي الزُّهْدِ أَضْعَفُ، فَعَلَى الْمُؤْمِنِ الْمُتَّقِي أَلَّا يُفْتَنَ بِهَذِهِ الشَّهَوَاتِ وَيَجْعَلَهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute