للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعندي أن الذي جر المنكرين إلى إنكاره أمران: أحدُهما أنهم خالوا المترادفَ منافيًا لحكمة الواضع؛ لأنه تحصيلُ حاصل. والثاني ما وجدوه في مترادفات كثيرة مشتقة مع الاختلاف في موادّ اشتقاقها اختلافًا يؤذن باختلاف مدلولاتها، مثل الصارم، والفَيصل، والحُسام، المشتقة من الصِّرم، والفَصْل، والحسْم. وهذا الثاني هو الذي يرمى إليه كلامُ أبي علي الفارسي في مناظرته مع ابن خالويه (١).

وكشفُ شبهتهم أن نقول: أما منافاتُه للحكمة فممنوعة؛ لأن حكمةَ وضع اللغة المتسعة ليست منحصرةً في الإبانة، بل له حكمةٌ أخرى وهي قصدُ التوسع في الكلام، كما قال قطرب (٢)، وإيجاد مادة لأدب تلك اللغة. وإن منكري الترادف لمَّا قَصَروا نظرَهم على التوجه نحو حكمة الوضع من جهة حصول الإبانة فقط قد غبنوا العربيةَ حقَّها من الشرف إذ نزّلوها بمنزلة اللغات الساذجة التي قصاراها الدلالةُ على بسيط المعاني الجائشة بالنفس. وليس كذلك معظمُ همِّ اللغات الكبرى، فإنها يُقصد منها أن تكون صالِحةً لأَنْ يتملك المتكلمُ بها مشاعرَ السامع في حال الشعر، والخطابة، والمراسلة، والملح. وإن العربية سيدةُ اللغات، فوجب أن يكون لها


= أَبُدِّلَتِ المَنَازِلُ أَمْ عُنِينَا ... بِقَادِمِ عَهْدِهِنَّ فَقَدْ بُلِينَا
وآخرها:
وَلَمْ أَجِدِ الفَتَى يَلْهُو بِشَيْءٍ ... وَلَوْ أَثْرَى وَلَوْ ولد البَنِينَا
العباسي، عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أحمد: كتاب شرح شواهد التلخيص المسمى معاهد التنصيص (القاهرة: المطبعة البهية المصرية، ١٣١٦ هـ)، ج ١، ص ١٠٤ - ١٠٦.
(١) سبق توثيقها.
(٢) قال أبو علي قطرب بعد أن ذكر الوجه الأول من الأوجه الثلاثة التي يأتي عليها الكلام في ألفاظ العربية: "والوجه الثاني اختلاف اللفظين والمعنى متفق واحد، وذلك مثل: عَيْر وحمار، وذئب وسيد، وسمسم وثعلب، وأتى وجاء، وجلس وقعد. اللفظان مختلفان والمعنى واحد، وكأنهم إنما أرادوا باختلاف اللفظين - وإن كان واحد مجزيًا - أن يوسعوا في كلامهم وألفاظهم، كما زاحفوا في أشعارهم ليتوسعوا في أبنيتها ولا يلزموا أمرًا واحدًا". قطرب، أبو علي محمد بن المستنير: كتاب الأضداد، تحقيق حنا حداد (الرياض: دار العلوم للطباعة والنشر، ط ١، ١٤٠٥/ ١٩٨٤)، ص ٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>