للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد يخطر بباله المعنيان فصاعدًا، فيحاول أن يمزجها جميعًا، ويُنْزِلُ السامعَ منزلةَ المطلعِ على ضميره، كما قال أبو تمام:

سَبَقَ المَشِيبَ إِلَيْهِ حَتَّى ابْتَزَّهُ ... وَطَنَ النُّهَى مِنْ مَفْرِقٍ وَقِذَالِ (١)

أراد أن السيفَ سبق المشيبَ إلى رأس القِرْنِ فافتكَّ منه الرأسَ، ومرادُه أنهم لو لم يُقتَلوا لشَابُوا من هول الحرب. إلا أن هذا لا يدل عليه لفظُه، ولكنه شيءٌ قدَّره في نفسه، وتراكم بعضُه على بعض، فعبر عن الصورة التي حصلت في ذهنه دفعةً واحدة.

وأما التقسيمُ فهو جَمْعُ طائفةٍ من المعاني في شقٍّ من الكلام لارتباطٍ لها ببعضها، واتفاقٍ في نوعٍ، أو غايةٍ، أو نحوهما. وقد نُقل عن بعضِ الحكماء أنه قال: "الخطابة صحةُ التقسيم". (٢) وأكمَلُه ما استوعبَ الأقسامَ كلَّها، كقول علي - رضي الله عنه -:


= قلت: ولم صيَّرته شاعرَ الشعراء؟ قال: لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبَّع وحشيَّ الشعر، ولا يمدح أحدًا إلَّا بما فيه". القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص ٧٦.
(١) البيت من قصيدة طويلة قالها يمدح الخليفة المعتصم. ديوان أبي تمام، ص ٢٤٧. والمفرق هو وسط الرأس، والقذال مؤخره.
(٢) وقد سماها ابنُ رشد في بعض نسخ التلخيص "جودة التقسيم". تلخيص الخطابة، تحقيق عبد الرحمن بدوي (القاهرة: مكتبة نهضة مصر، ١٩٦٠)، ص ٢٥٠. وصحةُ التقسيم أحدُ المفاهيم الرئيسة في نظرية الخطابة عند اليونانيين، وقد اهتم علماءُ البلاغة العربية بهذا الموضوع في مؤلفاتهم، وربما أخذ المصنفُ هذا التعريفَ مما ذكره الجاحظ حيث قال: "وقيل لليوناني: ما البلاغة؟ قال: تصحيح الأقسام، واختيار الكلام". البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٦٨. وقال ابنُ أبي الحديد: "وصحةُ التقسيم بابٌ من أبوابِ علم البيان، ومنه قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)} [فاطر: ٣٢]، وهذه قسمة صحيحة؛ لأن المكلَّفين إما كافرٌ، أو مؤمن، أو ذو المنزلةِ بين المنزلتين. هكذا قسَّم أصحابُنا [أي المعتزلة] الآيةَ على مذهبهم في الوعيد. وغيرُهم يقول: العباد إما عاصٍ ظالِمٌ لنفسه، أو مطيعٌ مبادرٌ إلى الخير، أو مقتصد بينهما. . . ووقف سائلٌ على مجلسِ الحسن البصري فقال: رحم الله عبدًا أعطى من سَعَة، أو واسَى من كفاف، أو آثر من قلة. فقال الحسن: لم تترك لأحد عذرَا". ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (بيروت: دار الجيل، ط ٢، ١٤١٦/ ١٩٩٦)، ج ٤/ ٧، ص ١٨٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>