للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مبالاة المتكلِّم باستعطاف المخاطَب ولا بملاينته. ولها مواقع: الغضب، والحماسة، والوعظ، والعتاب، ونحوها. وأما السهولةُ فهي دونَها، وهي لين المعنى، وتجريده من شوائب الإرهاب، واشتماله على إيضاح بساطة حال المتكلِّم، وملاينة المخاطَب، ولها مواقع: الأمور العادية، والعلوم، والمخاطبات بين الأكفاء. وأما الرِّقَّةُ فهي غايةُ إيضاح لطيفِ الوجدانِ من المتكلِّم، أو التلطف مع السامع، ولها مواقع: الشوق، والرثاء، والاعتذار، والتأديب.

وبهذا يتضح أن ليس لشيءٍ من هذه الأوصاف مدخلٌ في صفة اللفظ، كما قد يُتَوَهَّم. ومن الواجبِ مؤاخاةُ المعاني في الغرض الواحد في الجزالة أو الرقة. ولهذا عِيب على جميل قولُه:

أَلَا أَيُّهَا النُّوَّامُ وَيْحَكُمْ هُبُّوا ... أُسَائِلُكُمْ: هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الْحُبُّ (١)

فقد حُكيَ عن بعضِ أهل الأدب والعربية أنه قال فيه: "هذا بيتٌ أولُه أعرابِيٌّ في شملته، وآخرُهُ مُخَنَّثٌ من مخنَّثِي العقيق يتفكك". (٢)


(١) البيت هو الخامس في مقطوعة من سبعة أبيات، طالعها:
تَذّكَّرَ أُنْسًا مِنْ بُثَيْنَةَ ذَا الْقَلْبُ ... وَبَثْنَةُ ذِكْرَاهَا يِذِي شَجَنٍ نَصْبُ
ديوان جميل بثينة، تقديم بطرس البستاني (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، ١٤٠٢/ ١٩٨٢)، ص ٦٢.
(٢) روى المرزباني بسنده عن الهيثم بن عدي قال: "قال لي صالح بن حسان: هل تعرف بيتًا من الشعر نصفه أعرابِيٌّ في شملة، والنصف الآخر مخنَّثٌ من أهل العقيق يتقصف تقصفًا؟ قلت: لا والله. قال: قد أجَّلْتُك حولًا. قلت: لو أجَّلْتَنِي حولين ما علمتُ الذي سألتني - وقال محمد في حديثه: لو أجَّلْتَنِي خمسين حولًا لم أعرفه. فقال: أُفٍّ لك! قد كنتُ أحسبُكَ أجودَ علمًا مما أنت. قلت: وما هو؟ قال: "أَومَا سمعتَ قولَ حميل: أَلَا أَيُّهَا النُّوَّامُ وَيْحَكُمْ هُبُّوا"، أعرابي والله يهتف في شملة. ثم أدركه اللين وضَرَعُ الحب وما يدرك العاشق، فقال: "أُسائلكم هَلْ يَقْتُلُ الرَّجُلَ الْحُبُّ"، كأنه والله من مخنثي العقيق يتفكك". وجاء عن الأصمعي مثلُ ذلك، قال: "قال هارون [الرشيد] يومًا لجلسائه وأنا منهم: أيُّكم يعرف بيتَ شعرٍ أولُ المصراع منه أعرابي في شملة، والثاني مخنَّث يتفكك؟ فأَرَمَّ القوم (أي سكتوا)، فقال هارون: قول جميل: "ألا أيها النوام ويحَكم هبوا"، فهذا أعرابِيٌّ =

<<  <  ج: ص:  >  >>