للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعلى المنشِئِ أن لا يتابعَهم في استعمال لفظٍ إلا بعد تحقيقِ معناه لغة. فمن أغلاطهم "رَدَحٌ من الزمن" يريدون حصةً قليلة، وإنما هو المدةُ الطويلة جدًّا، وقولهم: "باهِظُ الثمن" بمعنى كثير، وإنما هو الأمر المثقل. وقولهم: "توًّا" بمعنى الآن أو الوقت الحاضر، وهو غلَط؛ إذِ التَّوُّ الذهابُ على سواءٍ واستقامة، بحيث لا يُعَرجِّ على شيء، تقول: "سار توًّا، أي لم يقف ولم يعَرِّج. وقولهم: "ناهز"، يريدون تجاوز، وصوابه قارب، إلى غير ذلك.

وأما العِزَّةُ فهي سلامةُ الكلمة من الابتذال. والابتذالُ يقع على وجوه: أحدها نقلُ العامة الكلمةَ من معنى واستعمالُها في معنى غيرِ حسَن، كـ "البُهلول" فأصله السَّيِّدُ الجامعُ لصفاتِ الكمال، فأخرجه عامتُنا للمغفَّل، و"الخِرِّيت" أصله البصيرُ بالطرقات، كما رُوِي في حديث الهجرة (١) فاستعملوه للجبان. وكثيرٌ من أسماء الأضداد نشأ من مثل هذا.

الثاني أن تكون الكلمةُ من موضاعاتِ العامة المفقودة أو المنسِيَّةِ في فصيح الكلام، مثل "الخازِ باز" لذُباب الرياض، ومثل "اللقالق" جمع لقلق، وهو طائر له منقارٌ طويل دقيق، ورجلاه طويلتان (٢).


(١) عَنْ عروة بن الزبير عن عائشة رَضِيَ الله عَنْهَا، قالت: "وَاسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا، الْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَأَمِنَاهُ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا برَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلَاثٍ، فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدِّيِليُّ، فَأَخَذَ بِهِمْ أَسْفَلَ مَكَّةَ وَهُوَ طَرِيقُ السَّاحِل". صحيح البخاري، "كتاب الإجارة"، الحديث ٢٢٦٣، ص ٣٦٠. والرجل الخرِّيتُ هو عبد الله بن أبي أرَيْقِط، وكان أبو بكر هو الذي استأجره، كما ذكر ابن سعد. الزهري: كتاب الطبقات الكبير، ج ١، ص ١٩٦.
(٢) أشرنا إلى قولِ أبي الطيب شعرًا: "كأنها الخاز باز" وإلى قوله: "يصيح الحصا فيها صياح اللقالق". - المصنف. وقد جاء ذلك في البيتين الآتيين:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ ... شُعَرَاءٌ كَأَنَّهَا الْخَازِبَازِ
وَمَلْمُومَةٌ سَيْفِيَّةٌ رَبَعِيَّةٌ تَصِيحُ ... الْحَصَى فِيهَا صِيَاحَ اللَّقَالِقِ =

<<  <  ج: ص:  >  >>