فلذلك احتِيجَ إلى تقديم المقدمات، وذكرِ العلل والغايات، والاستشهادِ بالمناسبات، واستطرادِ النَّظَائِرِ والأمثال. فقديمًا ما صُدِّر المديحُ بالنسيب، والخطبةُ بالثناء والاعتبار. فإذا علم المتكلِّمُ أيْنَ يَضَعُ أجزاءَ الكلام جاء كلامُه مرتبطًا، وإذا لم يُحْسِنْ ذلك اختلط عليه وخرج من غرضٍ إلى غرض. فإذا استطرَدَ أو قَدَّم أو ذَيَّل،
= يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (١٥٩)} [البقرة: ١٤٦ - ١٥٩]، قال بشأن الآية ١٤٦: "جملة معترِضة بين جملة: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: ١٤٥] إلخ وبين جملة: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ} [البقرة: ١٤٨]، إلخ، اعتراضَ استطرادٍ بمناسبةِ ذكرِ مطاعنِ أهل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرةٍ، ، مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق، كما دل عليه قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: ١٤٤]، فاستطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلا من مجموع طعنهم في الإسلام وفي النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدليلُ على الاستطراد قوله بعده: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: ١٤٨]، فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة". ثم قال بصدد الآية ١٥٩: "فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهودُ دعوةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل، إلى مبلغ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ} [البقرة: ٧٥] إلى قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ} [البقرة: ١٠١] الآية، وما قابل به اشتباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآيات، فنوه بإبراهيم، وبالكعبة، واستقبالها، وشعائرها. وتخلل ذلك ردُّ ما صدر عن اليهود من إنكارِ استقبالِ الكعبة، إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)}، يريد علماءهم، ثم عقب ذلك بتكملةِ فضائلِ الكعبة وشعائرها، فلما تم جميعُ ذلك عطف الكلامَ إلى تفصيل ما رماهم به إجمالًا في قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ}، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا} إلخ، وهذه طريقةٌ في الخطابة هي إيفاءُ الغرض المقصود حقَّه، وتقصيرُ الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه، ثم الرجوعُ إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد، أو اعتراض تخلل الغرضَ المقصود". ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير، ج ٢، ص ٣٩ و ٦٥ - ٦٦.