ثانيها أنها لذلك يجب أن تكون جملُها شديدةَ الارتباط، قريبة التآخي، بحيث لا يحسن فيها تطويلُ الاستطراد ولا بُعْدُ مَعادِ الضمائر والإشارات ونحوها؛ إذ ليس لذهن سامعها من التمكن في التفهم ما لذهن قارئ الرسالة.
ثالثُها أن السَّجْعَ الذي هو فنٌّ من فنون الإنشاء لا يحسُنُ كلَّ الحسن في الخطابة، خصوصًا الخطابة التي تُقال لجماهير الناس وعامتهم؛ لأن السجعَ لا يخلو عن تكلُّفِ ألفاظٍ تحجُبُ ذهنَ السامعين عن كمال فهم المعاني. فإن اغتُفِر فيها السجع، فإنما هو ما يقع عفوًا بلا تكلُّف، أي السجع الذي يطلب المتكلمَ لا الذي يطلبُه المتكلم.
رابعُها أن الخطابةَ لما كان شأنها الارتجال ولو كانت محضَّرة أو منقَّحة، فينبغي أن تكون صورتُها صورةَ الارتجال، فلذلك كانت جديرةً بطرح كلِّ ما تُشمُّ منه رائحةُ التصنُّع. نعم، لا نجهل أن الخطابةَ ضعُفَ التبريزُ فيها من أواسط القرن الخامس شيئًا فشيئًا، وصارت الخطبُ مهيَّأةً مِن قبل إلقائها، وصار الخطباءُ يلقونها من الأوراق، فمالوا فيها إلى المحسِّنات اللفظية التي غلبت على إنشاء تلك العصور فما دونها. إلا أن تكاثرَ ذلك لم يحُلْ بصاحبِ الذوق السليم من أن تخالجَه السماجةُ عند سماعها. وهذا هو الذي أيقَنَّا بأن كثيرًا من الخطب المنسوبة لسيدنا على - رضي الله عنه - في كتاب "نهج البلاغة" هي من موضوعات أدباء الشيعة (١).
(١) لأن خطب الصحيحة النسبة إليه - رضي الله عنه - كانت على الصفة العربية الخلية من التكلف، مثل قوله: "أيها الناس، إن الدنيا تغر المؤمِّلَ لها والمخلِدَ إليها، ولا تَنْفَسُ بمَنْ نافس فيها، وتغلِب مَنْ غلَب عليها. وأيمُ الله، ما كان قومٌ قط في غضِّ نعمةٍ من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد. ولو أن الناسَ حين تنزل بهم النِّقَمُ وتزول عنهم النِّعَمُ فزِعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم وولهٍ من قلوبهم، لرد عليهم كلَّ شارد وأصلح لهم كلَّ فاسد. وإني لأخشى أن تكونوا في فَتْرة، وقد كانت أمورٌ مضت مِلتُمْ فيها ميْلةً كنتم فيها عندي غير محمودين، ولئن رُدَّ عليكم أمرُكم إنكم لسعداء، وما عليّ إلا الجهد، ولو شئت أن أقول، لقلت عفا الله عما سلف". فأين هذه من الخطبة المنسوبة إليه في نهج البلاغة في صحيفة ١٢ التي أولها: "الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون"، والخطبة التي أولها: "أحمده استتمامًا لنعمته، واستسلامًا لعزته" في صحيفة ٢٠ =