للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأما معرفةُ الانفعالات ومنشئها، فهي من أكبر ما يعتمد عليه خطيبُ القوم؛ إذ به يميِّز بين ما تنفعل به نفوسُ العامة وما تنفعل به نفوسُ الخاصة وما هو مشترك بينهما، وبين أنواع الانفعالات خيرِها وشرِّها وقوتها وضعفها، وما هو مقبول وما هو مردود. وقد تعرض أرسطو إلى ذلك بما عبر عنه بإثارة الأهواء فقال: "إنها انفعالات في النفس تثير فيها حزنًا أو مسرة" (١)، وقال أفلاطون: "لكل أمر حقيقة، ولكل زمان طريقة، ولكل إنسان خليقة، فالتمس من الأمور حقائقَها، واجر مع الزمان على طرائقه، وعامل الناسَ على خلائقهم". (٢)

فعلى الخطيب أن لا يقيسَ الناسَ على حذوِ نفسه؛ فإنَّ منهم مَنْ يساويه، ومنهم مَنْ يفوقُه، ومنهم مَنْ هو دونه. وليس ما يُزَهَّد فيه الفتى - مثلًا - يُزهَّد فيه الصَّبيُّ، ولا ما يخاطَب به الجنديُّ في صف القتال يخاطَب به الحكيم؛ إذ رُبَّ محمدةٍ عند هذا هي مذمةٌ عند الآخر، فنحن ندعو كلًّا منهما إذا أردنا منه انفعالاتٍ بما يناسب اعتقاده. ألا ترى أن حبَّ التعظيم والفخر مثلًا لو زُهِّد فيه الطفلُ في المكتب كما يُزَهَّد فيه الحكيمُ لاستوى عنده العملُ والكسل، ولم يهتم بمنافسة أقرانه فتضآلت مواهبه؟ وكذلك القناعة المحمودة لا يحسن أن يذكرها أو يدعوَ إليها مَنْ يخطب في قوم تكاسلوا عن التجارة، وفشا فيهم الفقر. فإن جاء يخطب فيمن أعرضوا عن تعاطي العلم، أو عن تهذيب النفس لشدة التعلق بالدنيا، حسُنَ أن يتعرض حينئذ لمحامد القناعة وأنها أكبر غنى.


(١) لم أجد هذا الكلام المنسوب لأرسطو لا في الترجمة العربية القديمة لكتابه "الخطابة" ولا في تلخيصه لابن رشد، ولا في كتاب الخطابة من الشفا لابن سينا.
(٢) لم أجد هذا القول المنسوب لأفلاطون فيما أمكنني الاطلاع عليه من كتب أخبار الفلاسفة والحكماء. وقد أحال المطيري في هذا الصدد على كتاب بعنوان "مقالات في الخطابة لبعض مشاهير كتاب العرب" من تصنيف الأب جبرائل أده (مطبعة الآباء اليسوعيين، ١٨٩٠، ص ٥٢)، ولم يتسن لي الاطلاع عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>