للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وعلى هذا، فالخطيب يخاطب السامعين بمقدار ما يعلم من رتبة انفعالهم بكلامه، فتارةً يتوجه إلى ابتداء المطلوب منهم من غير طلبٍ لوسائله، ويكل لهم السعيَ في وسائل تحصيله، وذلك إن علم أن لا نشوزَ منهم. وتارةً يتطلَّبُ منهم تحصيلَ الأسباب والوسائل إن علم منهم نشوزًا عن المطلوب، ليقعوا في الأمر المطلوب بعد ذلك على غير تهيؤ إليه. مثال ذلك لو أراد أن يدعوَ إلى أمر فيه صلاحٌ عام، نحو تكثير سواد الأمة بالتناسل، ويعلم من المخاطَبين بعضَ الإجفال عن ذلك لما يتوقعون من متاعب تربية البنين والبنات، فيقتضي الحالُ أن يدعوَهم إلى وسيلة ذلك وهو الحثُّ على التزويج، مظهرًا له في صفة السعي لمنفعة شخصية مرغِّبًا فيه بما يعود من حسن الأحدوثة أو بما يحصل من أجر عاجل أو آجل.

وكذلك القولُ في حمل المخالفين على الشيء بالرغبة والرهبة، فإذا كان الخطيبُ معتمِدًا على قوةٍ وعَلِمَ أن للمخاطَبين من الحدة والعصيان ما يُحبط سعيَ الخطيب، فعليه أن يتظاهر بقوته بادئ الأمر ليفل من تلك الحدة، كما فعل الحجاجُ يوم دخوله الكوفة، وبعد وقعة دير الجماجم (١).


(١) أما خطبته يوم دخول الكوفة فهي:
"أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلاَّعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أَضَعِ الْعَمَامَةَ تَعْرِفُونِي
أما والله إني لأحتمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأحزبه بمثله، وإني لأرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافُها، وإني لَصَاحبُها، وإني لأنظر إلى الدماء تَرَقْرَقُ بين العمائم واللحى. . . إني والله يا أهل العراق والشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، ما أُغمَزُ تَغْمازَ التِّين، ولا يُقَعْقَعُ لي بالشِّنان، [ولقد فُرِرت عن ذكاء، ولقد فُتِّشتُ عن تجربة، وجريت من الغاية]. إن أمير المؤمنين كبَّ كِنانته ثم عَجَم عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا وأصلبها عمودًا، فوجهي إليكم" إلخ. (انظرها في البيان والتبيين وفي كامل المبرد). وأما خطبته بعد دير الجماجم فهي: "يا أهل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف، فحشاكم نفاقًا وشقاقًا، وأشعركم خلافًا، واخذتموه دليلًا تتبعونه وقائدًا تطبعونه ومؤامَرًا تستشيرونه. فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو ينفعكم بيان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رُمتم المكر، وسعيتم بالغدر، واستجمعتم الكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته؟ وأنا أرميكم بطرفي، =

<<  <  ج: ص:  >  >>