هذا وقد يجهل المتكلِّمُ في غرضٍ ضمائرَ الناس، ولا يزن مراتبَ عقولهم، فينبغي له أن يتفطن لما يلوح عليهم من الانفعال، فيفاتحهم بما يثير انفعالَهم من أمورٍ صالحة لأغراض مختلفة، حتى يرى أميالَهم إلى أية وجهة تولي، فيعلم من أي طريقٍ يسلك إليها. ولا بد في هذه المفاتحة من جلب التوريات والتوجيهات ونحوها، مما يمكن تأويلُه ويتيسر له عند إجفالهم تحويلُه حتى لا يسترسل في موضوعه فيعسر عليه الرجوعُ إلى تعديله.
وانظر ما قصَّه الله تعالى في كتابه الحكيم عن مؤمن آل فرعون [غافر: ٢٨ - ٢٩]: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ}، فورَّى في اللوم، أي كيف تفعلون هذا بمن يختار لنفسه ربا؟ {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}، وهذا ارتقاء في الحجة، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}، وهذا تزهيد لهم في قتله بتقديم احتمال الكذب ليظهر أنه قصد الإنصاف، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}، وهذا تحضير لنفوسهم إلى ترقب صدق معجزته ووعده، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)}، وهذا تورية أيضًا، أي إنكم تنتظرون ما يتبين من أمره، فإن الله لا يصدق الكاذب بخارق العادة، {يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، وهذا توبيخ وتقريع؛ لأنه قد أوجب بما تقدم انفعالَ نفوسهم لقبوله، أي لا تكونوا سببًا لزوال سلطانكم بالتعرض لسخط الله؛ إذ لا شك أن هذا المؤمن الصالح كان يترقب من
= وأنتم تتسللمون لِواذًا وتنهزمون سراعا. ثم يومُ الزاوية وما يوم الزاوية، بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم، وبراءة الله منكم، ونكوص وليكم عنكم. . ." إلخ (انظرها في البيان والتبيين). المصنف. انظر الخطبة الأولى في: الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ٢، ص ٢٠٢؛ المبرد: الكامل في اللغة والأدب، ج ١، ص ٣١٤ - ٣١٦. أما الخطبة الثانية فهي في: البيان والتبيين، ج ١/ ٢، ص ٩٠؛ والبيت لسُحيم بن وثيل، وقد تقدم توثيقه والتعريف بصاحبه. أما "الزاوية فموضع قرب البصرة جرت فيه موقعة بين الحجاج وعبد الله بن الأشعث سنة ٨٢ هـ.