للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قومه الإجفالَ والتكشُّفَ على إيمانه، فأظهر لهم الكلامَ في مظهر المتردِّد الخائف من حلول المصائب به وبقومه، لا المنتصِرِ لموسى - عليه السلام -.

وإنما تظهر مواهبُ الخطيب وحكمتُه وبلاغتُه في هذا المقام؛ لأن مَنْ تكلم عن احتراسٍ وسوءِ ظنٍّ بسامعيه حاط لنفسه من الغلَط؛ لأن شدةَ الثقة بالنفس تُغَطِّي على عَوارِها فلا يتقيه ربُّها. ومن هذا أن يترك لنفسه بابًا لتدارك فائت، كما قال الحريري في المقامة الثانية والعشرين بعد أن ذكر استرسالَ أبي زيد السروجي في تفضيل كتابة الإنشاء على كتابة الحساب: "فلما انتهى في الفصل إلى هذا الفصل، لحظ من لمحاتِ القوم أنه ازدرع حُبًّا وبُغضًا، وأرضى بعضًا وأحْفَظ بعضًا، فعقب كلامه بأن قال: إلا أن صناعةَ الحساب موضوعةٌ على التحقيق، وصناعةَ الإنشاء مبنيةٌ على التلفيق". (١)

هذا إن كان المتكلِّمُ مفاتحًا بالكلام. فأما إن كان مجيبًا، فقد يلاحظ من أصول المجادلة ما يطول بسطُه هنا. وعلى كل حال فعليه أن يختبئ للمعترضين من الرُّجوم ما يقيه وصمة الإرتاج عليه أو الوجوم.

وأما الأمرُ الرابعُ وهو قوة البداهة في استحضار المعاني - وسماه أبو هلال في الصناعتين بانتهاز الفرصة (٢) - فهي من أهم ما يلزم الخطيب؛ إذ ليس يخلو من سامعٍ يدافع عن هواه أو عدوٍّ يترصد سقطاتِ الخطيب ليُرِيَ الحاضرين أنه ليس على حقٍّ فيما قال، أو مجيبٍ يجيب عن تقريع الموعظة، فإن لم يكن الخطيبُ قويَّ البداهة، أسكته المعترضُ أو المجيب. وقد كان عمر مرةً يخطب يوم الجمعة فدخل عثمان فقال له عمر: "أيةُ ساعةٍ هذه؟ ما بال أقوام يسمعون الأذان ويتأخرون! فقال له عثمان: ما زدت على أنْ سمعت الأذان فانقلبت فتوضأت. فقال له عمر: والوضوء أيضًا، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل".


(١) الحريري: مقامات الحريري، ص ٢١٦ - ٢١٧ (المقامة الفراتية). وعبارة "الفصل" الأولى في كلام الحريري معناها التمييز بين الحق والباطل في شأن الحساب والإنشاء، وعبارة "الفصل" الثانية المقصود بها الحد أو الغاية التي بلغها الكلام، فحصل بذلك جناس تام.
(٢) العسكري: كتاب الصناعتين، ص ١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>