للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ويعين على ذلك تنبُّهُه لما في كلام المجيب من مجاري الخلل، ومواضع النقد (١).

وأما شروطُ الخطيب في ذاته، فمنها جودةُ القريحة، وهي أمر غير مكتسب وقد قال موسى - عليه السلام -: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)} [طه: ٢٧، ٢٨]. وسيأتي لذكر اكتسابها كلام في عيوب الخطباء، قال أبو هلال: "من الناس مَنْ إذا خلا بنفسه وأعمل فكرَه أتى بالبيان العجيب، [والكلام البديع المصيب] , واستخرج المعنى الرائق، وجاء باللفظ الرائع. وإذا حاور أو ناظر، قصَّر وتأخَّر، فحقُّ هذا أن لا يتعرض لارتجال الخطب"، ومنهم من هو بالعكس (٢).

ومنها أن يكون رابطَ الجأش، أي غير مضطرِبٍ في فهمه ولا مندهش؛ لأن الحيرة والدَّهَشَ يصرفان الذهن عن المعاني، فتجيء الحُبسة، ويرتج على الخطيب.

ومنها أن يكون مرموقًا من السامعين بعين الإجلال لتُمْتَثَلَ أوامرُه، ويحصُل ذلك بأمورٍ كثيرة منها شرف المحتد قال الشاعر:

لَقَدْ ضَجَّتِ الأَرْضُونَ إِذْ قَامَ مِنْ بَنِي ... سَدُوسٍ خَطِيبٌ فَوْقَ أَعْوَادِ مِنْبَرِ (٣)


(١) من هذا ما حكي أن عبد الرحمن بن معاوية الداخل إلى الأندلس لما فتح سرقسطة، أقبل خواصه يهنئونه، فدخل معهم بعض الجند فهنأه بصوت عال، فقال له الأمير: "والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ فيه النعمة عليّ من هو فوقي، فأوجب ذلك عليّ أن أنعم فيه على من هو دوني، لأُصْلِيَنَّك ما تعرضتَ له من سوء النكال، مَنْ تكون حتى تُقبل مهنِّئًا، رافعًا صوتَك غير متهيب لمكان الإمارة، [ولا عارف بقيمتها، حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك؟ ] وإن جهلك لَيحملك إلى العَوْد لمثلها، فلا تجد مثلَ هذا الشافع في مثلها من عقوبة. فقال (الجندي): ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالُها باتصال جهلي وذنوبي، فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة، لا أعدمنيه الله تعالى، فتهلل وجه الأمير وقال له: ليس هذا باعتذار جاهل، ثم قال: نبِّهونا على أنفسكم، إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها]، ورفع مرتبته [وزاد في عطائه] ". فلولا أن كلام الأمير هيأ له العذر ولقنه إياه لبهت من حينه. - المصنف. انظر الخطبة في: المقري التلمساني، أحمد بن محمد: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس (بيروت: دار صادر، ١٤٠٨/ ١٩٨٨)، ج ٣، ص ٤١ - ٤٢.
(٢) العسكري: كتاب الصناعتين، ص ١٥.
(٣) البيت من شواهد النحو، وهو من بحر الطويل. وهو لكعب بن معدان الأشقري، وبه جزم محمد محيي الدين عبد الحميد. انظر: ابن جني، أبو الفتح عثمان: المحتسب في تبيين وجوه شواذ =

<<  <  ج: ص:  >  >>