للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقد كانت طرقٌ أخرى من التحذير أشدَّ من هذا، إلا أن النساء لَمَّا كُنَّ يتقين العراءَ والكشف، كان ذكرُه من أشد ما تنفعل له نفوسُهن.

ثانيها: القضايا الكلية والمسلَّمة، كقولِ عثمان - رضي الله عنه - في خطبةٍ له في شأن الناقمين عليه وتحذيرِ المسلمين من سوء نواياهم (١): "أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه الملة، قوم عيابون طعانون، يُرونكم ما تحبون، ويسرون ما تكرهون. [أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار، لقد عبتم علي أشياء ونقمتم أمورًا] قد أقررتم لابن الخطاب مثلَها، ولكنه وَقَمَكم وقمعكم" إلخ (٢).

ثالثُها: النوازلُ الحادثة؛ فإنها فُرَصٌ للموعظة، والنفوسُ عند نزولها سريعةُ الانفعال، رقيقةُ الوجدان. وللنفوس غِرَّةٌ كغرة الصيد، فإذا لم يضَيِّعْها الخطيبُ أصاب منها الغرض، ولهذا سُنَّتْ الموعظةُ عند خسوف الشمس.

ولقد أجاد الحريريُّ ما شاء حين تخيل أبا زيدٍ خطيبًا إثر دفن الجنازة في المقامة الحادية عشرة إذ قال: "فلما ألحدوا الميْتَ، وفات قولُ ليتَ، أشرف شيخٌ من رباوة، متخصِّرًا بهِراوة، [وقد لفَّع وجهه بردائه، ونكَّر شخصَه لدهائه، ] فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون. فادَّكِروا أيها الغافلون، وشمّروا أيها المقصّرون، وأحْسنوا أيها المبتصّرون. ما لكم لا يحزنكم دفنُ الأتراب، ولا يهولُكم هيلُ التراب! . . ." إلخ (٣). فأنت تراه كيف جعله مستغنيًا بذلك عن مقدمة الخطبة.


(١) الصواب أن "نية" تجمع على "نيات"، أما جمعها على "نوايا" فمن الأخطاء الشائعة، وقد نبه المصنف إلى هذا في مقال "أخطاء الكتاب في العربية: رد على نقد"، فانظره في موضعه من هذا المجموع.
(٢) ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: الإمامة والسياسة (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٢٧/ ٢٠٠٦)، ص ٢٨. ومعنى وَقَمكم: جعلكم تغتاظون. وقمعكم: قهركم وصرفكم عما تريدون.
(٣) الحريري: مقامات الحريري، ص ١٠٧ - ١٠٨ (المقامة الساوية).

<<  <  ج: ص:  >  >>