للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومثلُ ذلك يُقال في أساليبِ تنسيق الخُطَب على حَسَب الأغراض، فلكلِّ غرضٍ لهجةٌ ونسق، فليست خطبةُ الجمعة كخطبةٍ في حفلة سياسية أو أدبية. ولذلك يحسن التأنقُ في بعضها والبساطةُ في بعض، كما أنه يحسن الإرسالُ في بعضها، ويحسن السجعُ في بعض. وقد تتبعتُ - ما استطعتُ - مواقعَ السجع في الخطب النبوية وخطب فصحاء العرب في الجاهلية والإسلام، فرأيتُ مواقعَ السجع عندهم في حيث يُرادُ الحفظُ للقول، كالوصايا والآداب والخطب الأدبية العلمية.

ويُرشِدُ إلى هذا ما روى الجاحظ عن عبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي أنه قيل له: "لِمَ تُؤْثِرُ السجعَ على المنثور [وتُلزم نفسك القوافيَ وإقامة الوزن]؟ قال: إن كلامي لو كنت لا آمُلُ فيه إلا سماعَ الشاهد لقل خلافي عليك، ولكني أريدُ الغائبَ والحاضر، والراهن (الحال) والغابر (المستقبل)؛ فالحفظُ إليه (أي السجع) أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلُّت". (١)

وعندي أن هذا هو مُرادُ الشيخ عبد القاهر بقوله في مقدمة كتابه أسرار البلاغة حيث قال: "والخُطَبُ من شأنها أن يُعتمد فيها الأوزانُ والاسجاع؛ فإنها تُرْوَى وتُتَنَاقلُ تناقلَ الأشعار". (٢) وليس مرادُه أن تناقلَ ذلك شأنُ الخطب كلها، لما هو معلومٌ لمن لا يفوتُه من أساليب خطب العرب وخطب الصدر الأول.

ولذلك كان مقامُ السجعِ كلَّ مقامٍ يحضر للقول من قبل، فقد رأينا العربَ لم تكن تحفل بالسجع إلا هنالك، كما في خطبة قُس بن ساعدة التي خطبها في سوق


(١) الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ١٩٦. وعبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي أبوه أبو عيسى الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي البصري، الواعظ، القاص، كان خطيبًا بارعًا، ومتكلمًا على طريقة المعتزلة، روى أبو عيسى الحديث روى عن عمه يزيد بن أبان الرقاشي، وعن أنس بن مالك، وأبي عثمان النهدي، ومحمد بن المنكدر، والحسن البصري، وقد ضعفه العلماء بالحديث والرجال، وقالوا: منكر الحديث. توفي أبو عيسى نحو سنة ١٤٥ هـ. أما ابنه عبد الصمد فلم أعثر له على ترجمة.
(٢) الجرجاني: كتاب أسرار البلاغة، ص ٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>