للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كالموعود به المنتظر، يتشوَّقها المعنى بحقه واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقةً في مقرها، مُجتلَبةً لمستغنٍ عنها.

فهذه الخصالُ عمود الشعر عند العرب. فمَنْ لزمها بحقِّها وبنى شعرَه عليها، فهو عندهم المفلِقُ المعظَّم، والمحسِن المقدَّم. ومَنْ لم يجمعها كلَّها، فبقدر سُهْمَته منها يكون نصيبُه من التقدم والإحسان. وهذا إجماع مأخوذٌ به ومتَّبع نهجُه حتى الآن. واعلم أن لهذه الخصال وسائطَ وأطرافًا، فيها ظهر صدقُ الواصف، وغلوُّ الغالي، واقتصادُ المقتصد. قد اقتفرها (١) اختيارُ الناقدين:

فمنهم من قال: "أحسن الشعر أصدقه"، قال: لأن تجويد قائله فيه مع كونه في إسار الصدق يدل على الاقتدار والحذق.

ومنهم مَنِ اختار الغلوَّ حتى قيل: "أحسن الشعر أكذبه"؛ لأن قائلَه إذا أسقط عن نفسه تقابُلَ الوصف والموصوف، امتد فيما يأتيه إلى أعلى الرتبة، وظهرت قوتُه في الصياغة، وتمهرُه في الصناعة، واتسعت مخارجُه وموالجه، فتصرف في الوصف كيف شاء؛ لأن العمل عنده على المبالغة والتمثيل، لا المصادقة والتحقيق. وعلى هذا أكثر العلماء بالشعر والقائلين له.

وبعضُهم قال: "أحسن الشعر أقصده"؛ لأن على الشاعر أن يبالغه فيما يصير به القولُ شعرًا فقطِّ، فما استوفى أقسامَ البراعة والتجويد أو جلَّها من غير غلو في القول ولا إحالة في المعنى، ولم يُخرج الموصوفَ على أن لا يُؤْمَنَ بشيء من أوصافه، لظهور السَّرَف في آياته وشمول التَّزيُّد لأقواله، كان بالإيثار والانتخاب أولى.

ويتبع هذا الاختلافَ ميلُ بعضِهم إلى المطبوع وبعضهم إلى المصنوع. والفرقُ بينهما أن الدواعِيَ إذا قامت في النفوس وحرَّكَتِ القرائحَ أعملت القلوب، وإذا جاشت العقولُ بمكنون ودائعها وتظاهرت مكتسباتُ العلوم وضرورياتها، نبعت


(١) اقتفر الأمر: اقتفاه وتتبعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>