المعاني ودَرَّت أخلافُها، وافترقت خفِيَّاتُ الخواطر إلى جلِيَّاتِ الألفاظ. فمتى رُفِض التكلُّفُ والتعمُّلُ، وخُلَّيَ الطبعُ المهذَّبُ بالرواية المدرَّبُ في الدراسة لاختياره فاسترسل غيرَ محمول عليه ولا ممنوعٍ مما يميل إليه، أدَّى من لطافة المعنى وحلاوة اللفظ ما يكون صفوًا بلا كدَر وعفوًا بلَا جُهد؛ وذلك هو الذي يُسمَّى المطبوع. ومتى جُعل زمامُ الاختيار بيد التعمُّل والتكلف، عاد الطبعُ مستخْدَمًا متمَلَّكًا، وأقبلت الأفكارُ تستحمله أثقالَها، وتردده في قبول ما يؤديه إليها، مطالبةً له بالإغراب في الصنعة، وتجاوز المألوف إلى البدعة، فجاء مؤداه وأثرُ التكلُّفِ يلوحُ على صفحاته؛ وذلك هو "المصنوع".
وقد كان يتَّفِقُ في أبياتِ قصائدهم - من غير قصدٍ منهم إليه - اليسيرُ النزر، فلما انتهى قرضُ الشعر إلى المحدَثين ورأوا استغرابَ الناسِ للبديع على افتنانهم فيه، أُولِعوا بتورِّده إظهارًا للاقتدار، وذاهبًا على الإغراب. فمن مُفرِّطٍ ومقتصد، ومحمودٍ فيما يأتيه ومذموم، وذلك على حسب نهوضِ الطبع بما يُحمَّل، ومدى قواه فيها يُطلب منه ويُكَلَّف. فمَنْ مال إلى الأوَّلِ، فلأنه أشبهُ بطرائقِ الإعراب، لسلامته في السبك، واستوائه عند الفحص. ومَنْ مال إلى الثاني، فلدلالته على كمال البراعة، والالتذاذ بالغرابة.
وأما تعجُّبُك من أبي تمامٍ في اختيار هذا المجموع، وخروجه عن ميدان شعره، ومفارقته ما يهواه لنفسه، وإجماع نقاد الشعر بعده على ما صحبه من التوفيق في قصده، فالقولُ فيه أن أبا تمَّامٍ كان يختارُ ما يختاره لجودته لا غير، ويقول ما يقوله من الشعر بشهوته. والفرقُ بين ما يُشتهَى وبين ما يُستجَادُ ظاهر، بدلالة أن العارفَ بالبَزِّ قد يشتهي لُبسَ ما لا يستجيده، ويستجيد ما لا يشتهي لُبسَه. وعلى ذلك حالُ جميع أعراض الدنيا مع العقلاء العارفين بها في الاستجادة والاشتهاء.
وهذا الرجلُ لم يعمِدْ من الشعراء إلى المشتهرين منهم دون الأغفال، ولا من الشِّعرِ إلى المتردِّدِ في الأفواه والمجيب لكل داع، فكان أمره أقرب. بل اعتسفَ في دواوين الشعراء، جاهليِّهم ومخضْرَمِهم وإسلاميِّهم ومولَّدهم، فاختطف منها