الأرواحَ دون الأشباح، واخترف الأثمارَ دون الأكمام، وجمع ما يوافق نظمَه ويخالفه؛ لأن ضروبَ الاختيار لم تخفَ عليه، وطرقَ الإحسان والاستحسان لم تستتر عنه، حتى إنك تراه ينتهي إلى البيت الجيِّدِ فيه لفظةُ تشِينُه فيَجْبُرُ نقيصتَهُ من عنده، ويبدِّل الكلمةَ بأختها في نقده.
وهذا يَبِينُ لمَنْ رجع إلى دواوينهم فقابل ما في اختياره بها. ولو أن نقدَ الشعر كان يُدرَك بقوله، لكان مَنْ يقول الشعرَ من العلماء أشعرَ الناس. ويكشِف هذا أنه قد يُمَيِّزُ الشعرَ مَنْ لا يقوله، ويقول الشعرَ الجيِّدَ مَنْ لا يعرِف نقدَه. على ذلك كان البُحْتُرِيُّ؛ لأنه فيما حُكِيَ عنه كان لا يُعْجَبُ من الشعر إلا بما وافق طبعَه ومعناه ولفظَه.
وحكى الصوليُّ أنه سمع المبرَّد يقول:"سمعتُ الحسن بن رجاء يقول: ما رأيتُ أحدًا قط أعلمَ بجيِّدِ الشعر قديمه وحديثه من أبي تمام". وحُكِيَ عنه أنه مَرَّ بشعرِ ابن أبي عُيَيْنَة فيما كان يختارُه من شِعْرِ المحدَثين فقال:"وهذا كلُّه مختار". هذا وشعره أبعد الأشياء من شعره، وهذا واضح.
وأما ما غلب على ظنِّك من أن اختيارَ الشعراء موقوفٌ على الشهوات؛ إذ ما كان يختاره زيدٌ يجوز أن يزَيِّفَه عمرو، وأن سبيلَها سبيلُ الصور في العيون، إلى غير ذلك مما ذكرته، فليس الأمرُ كذلك؛ لأن مَنْ عرف مستورَ المعنى ومكشوفَه، ومرفوضَ اللفظ ومألوفَه، وميَّز البديعَ الذي لم تقتسمْه المعارضُ ولم تعتسفه الخواطر، ونظَرَ وتبَحَّر، ودار في أساليب الأدب فتخَيَّر، وطالت مجاذبتُه في التذاكر والابتحاث، والتداول والابتعاث، وبان له القليلُ النائبُ عن الكثير، واللَّحْظُ الدالُّ على الضمير، ودرى تراتيبَ الكلام وأسرارَها، كما درى تعاليقَ المعاني وأسبابَها، إلى غير ذلك مما يُكمِّل الآلةَ ويشحذ القريحة - تراه لا ينظُرُ إلا بعينِ البصيرة، ولا يسمع إلا بأُذُنِ النَّصَفَة، ولا ينتقد إلا بيد المَعْدِلة، فحكمُه الحكمُ الذي لا يبدَّل، ونقدُه النَّقْدُ الذي لا يُغيَّر.
واعلم أنه قد يعرِف الجيدَ مَنْ يجهل الرديء. والواجبُ أن تَعرِف المقابحَ المتَسخَّطة، كما عَرَفتَ المحاسنَ المرتضاة. وجِماعُها إذا أُجْمِلتْ أنها أضدادُ ما بيَّنَّاه من