عَمَد البلاغة وخصال البراعة في النظم والنثر. وفي التفصيل كأن يكون اللفظ وحشيًّا أو غير مستقيم، أو لَا يكون مستعملًا في المعنى المطلوب، فقد قال عمر - رضي الله عنه - في زهير:"لا يتتبع الوحشيَّ، ولا يُعاظل في الكلام"، أو يكون فيها زيادةٌ تُفسد المعنى أو نقصان، أو لَا يكون بين أجزاء البيت التئام، أو تكون القافيةُ قلقةً في مقرِّها أو مَعيبةً في نفسها، أو يكون في القَسْمُ أو التقابل أو في التفسير فسادٌ، أو فِي المعنى تناقضٌ أو خروجٌ إلى ما ليس في العادة أو الطبع، أو يكون الوصفُ غيرَ لائقٍ بالموصوف، إلى غير ذلك مما يحصِّله لك تأملُك جُمَلَ المحاسن وتفصيلها، وتتبعُك ما يضادُّها وينافيها، وهذا هَيِّنٌ قريب.
وإنما قلت هذا؛ لأن ما يختاره الناقدُ الحاذقُ قد يتَّفِقُ فيه ما لو سُئِلَ عن سبب اختياره إياه، وعن الدلالة عليه، لم يمكنه في الجواب إلا أن يقول: هكذا قضيةُ طَبْعِي، أو ارجِعْ إلى غيري مِمَّنْ له الدُّربةُ والعلمُ بمثله، فإنه يحكُمُ بمثلِ حكمي. وليس كذلك ما يسترذِلُه النقدُ أو ينفيه الاختيار؛ لأنه لَا شيءَ من ذلك إلا ويمكن التنبيهُ على الخللِ فيه، وإقامةُ البرهان على رداءته، فاعلمْه.
وأما تمنِّيك معرفةَ السببِ في تأخُّرِ الشعراء عن رُتْبَةِ الكتاب والبلغاء، والعذرِ في قلةِ المترسِّلين وكثرةِ المفلقين، والعلةِ في نباهة أولئك وخمولِ هؤلاء، ولماذا كان اكثرُ المُفْلِقِين لا يَبْرَعُون في إنشاء الكتب، وأكثرُ المترسِّلين لا يُفْلِقُون في قرض الشعر، فإني أقول في كل ذلك بما يحضر، والله ولي توفيقي، وهو حسبي وعليه توكلي.
اعلم أن تأخرَ الشعراء عن رتبة البلغاء موجِبُه تأخُّرُ المنظوم عن رتبة المنثور عند العرب لأمرين:
أحدهما أن ملوكَهم قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجَّحُون بالخطابة والافتنان فيها، ويَعُدُّونها أكملَ أسبابِ الرئاسة، وأفضلَ آلات الزعامة. فإذا وقف أحدُهم بين السِّمَاطين لحصول تنافرٍ أَو تضاغُنٍ أو تظالُمٍ أو تشاجر، فأحسنَ الاقتضابَ عند البداهة، وأَنْجَعَ في الإسهابِ وقتَ الإطالة، أو اعتلى في ذِرْوة مِنْبَرٍ فتصرَّف في