ضروبٍ من تخشينِ القول وتليينه، داعيًا إلى طاعة، أو مستصلِحًا لرعية، أو غير ذلك مما تدعو الحاجةُ إليه، كان ذلك أبلغَ عندهم من إنفاقِ مالٍ عظيم، وتجهيزِ جيشٍ كبير. وكانوا يأنَفُون من الاشتهار بقَرْض الشعر، ويَعُدُّه ملوكُهم دناءة، وقد كان لامرئ القيس في الجاهلية مع أبيه حُجْر بن عمرو حين تعاطى قولَ الشعر فنهاه عنه وقتًا بعد وقت وحالًا بعد حالٍ، ما أخرجه إلى أن أمر بقتله، وقصتُه مشهورة، فهذا واحد.
والثاني أنهم اتخذوا الشعرَ مكسَبَةً وتجارة، وتوصَّلوا به إلى السُوَقة، كما توصَّلوا به إلى العلية، وتعرضوا لأعراض الناس، فوصفوا اللئيمَ عند الطمع فيه بصفة الكريم، والكريمَ عند تأخر صلته بصفة اللئيم، حتى قيل:"الشعر أدنى مروءة السري وأسرى مروءة الدني". فهذا البابُ ظاهر. وإذا كان شرف الصانع بمقدار شرف صناعته، وكان النظمُ متأخرًا عن رتبة النثر، وجب أن يكون الشاعرُ أيضًا متخلفًا عن غاية البليغ.
ومما يدلُّ على أن النثرَ أشرفُ من النظم أن الإعجازَ من الله تعالى جده والتحدي من الرسول - عليه السلام - وقعا فيه دون النظم، يكشف ذلك أن معجزاتِ الأنبياء عليهم السلام في أوقاتهم كانت من جنسِ ما كانت أُممُهم يولَعون به في حينهم، ويغلب على طبائعهم، وبأشرف ذلك الجنس. على ذلك كانت معجزةُ موسى - عليه السلام -؛ لأنها ظهرت عليه وزمنُه زمنُ السِّحر والسَّحرة، فصارت من ذلك الجنس وبأشرفه. وكذلك كان حالُ عيسى - عليه السلام -؛ لأن زمنه كان زَمنَ الطب، فكانت معجزتُه - وهي إحياء الموتى - من ذلك الجنس وبأشرفه.
فلما كان زمنُ النبي - صلى الله عليه وسلم - زمنَ الفصاحة والبيان، جعل الله معجزتَه من جنسِ ما كانوا يُولَعون به وبأشرفه، فتحدَّاهم بالقرآن كلامًا منثورًا، لا شعرًا منظومًا. وقد قال الله عز وجلّ في تنزيه (١) النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْر
(١) جاء في بعض النسخ "تنويه" بدل "تنزيه"، وهو ما أثبته الأستاذ عبد السلام هارون في نشرته، وعلق عليه فقال: "يقال نوه فلانًا ونوه به، إذا رفعه وطير به وقواه، ومنه قول أبي نُخيلة: =