للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي نسخة الآستانة بعد قوله: "على أن النثرَ أشرفُ من النظم"، زيادة: "وأن النظم أقصرُ درجة من النثر"، وهي مستغنًى عنها.

"وأما السببُ في قلة المترسلين وكثرة المفلِقين وعِزِّ من جمع بين النوعين مبرِّزًا فيهما، فهو أن مَبْنَى "الترسُّل" أن يكون واضحَ المنهج، سهلَ المعنى، ممتدَّ الباع، واسعَ النطاق، تدل لوائحُه على حقائقه، وظواهرُه على بواطنه؛ إذ كان مورده على أسماعٍ مفترقة من خاصِّي وعامي، وأفهامٍ مختلفة من ذكِيٍّ وغبي. فمتى كان متسهَّلًا متساوقًا، ومتسلسلًا متجاوبًا، تساوت الآذانُ في تلقيه، والأفهامُ في درايته، والألسن في روايته، فيسمح شارده إذا استُدعي ويتعجل وافده إذا استُدنِي، وإنْ تطاول أنفاسُ فصوله وتباعَد أطراف حزونه وسهوله. ومبنى "الشعر" على العكس من جميع ذلك؛ لأنه بُنِيَ (١) على أوزانٍ مقدرة، وحدودٍ مقسمة، وقوافٍ يُساق ما قبلها إليها مهيأة، وعلى أن يقوم كلُّ بيت بنفسه غيرَ مفتقر إلى غيره، إلا أن يكون مضمنًا بأخيه وهو عيب فيه. فلما كان مداه لا يمتد بأكثرَ من مقدار عَرُوضه وضربه وكلاهما قليل، وكان الشاعرُ يعمل قصيدته بيتًا بيتًا، وكلُّ بيت يتقاضاه بالاتحاد، وجب أن يكون الفضلُ في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعرُ في تلطيفه والأخذ من حواشيه حتى يتسعَ له اللفظ، فيؤديَه على غموضه وخفائه حدًّا يصير المدركُ له والمشرفُ عليه كالفائز بذخيرة اغتنمها، والظافرِ بدفينة استخرجها. وفي مثل ذلك يحسن انْمحاءُ الأثر (٢)، وتباطؤ المطلوب على المنتظر. فكلُّ ما يُحمد في الترسل ويُختار يُذَمُّ في الشعر ويُرفض. فلما اختلف المبنيان كما بينَّا، وكان المتولِّي لكلِّ واحد منهما يختار أبعدَ


(١) وفي نسخة "مبنيٌّ" وهي القراءة التي أثبتها الأستاذ عبد السلام هارون في المتن، وأشار إلى التي اعتمدها المصنف في الحاشية. المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، تحقيق عبد السلام هارون، ج ١، ص ١٨.
(٢) في نسخة "امِّحاء" بإدغام النون والميم. نشرة هارون، ج ١، ص ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>