للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان بشارٌ يعطي أبا الشَّمَقْمَق (١) الشاعر مائتي درهم كلَّ سنة، فقال له أبو الشمقمق في بعض السنوات: أين الجِزْية؟ فقال: أَوَ جزية هي؟ قال: نعم، قال بشار: أنت أفصحُ مني وأعلم بمثالب الناس؟ قال: لا، فلِمَ أُعْطِيك؟ قال: لئلا أهْجُوَك، قال: إن هجوتني هجوتُك، فقال أبو الشَّمَقْمَق:

إنِّي إِذَا مَا شَاعِرٌ هَجَانِيَهْ ... وَلَجَّ فِي القَوْلِ لَهُ لِسَانِيَهْ

أَدْخَلْتُهُ فِي أَسْتِ أُمِّهِ عَلَانِيَهْ ... بَشَّارُ يَا بَشَّارُ. . . .

فوثب بشارٌ ووضع يده على فم أبي الشَّمَقْمَق، ولم يتركه ينطق ببقية البيت؛ لأنه علم أنه سيقول: "يا ابن الزانية" (٢).

واستصنع بشارٌ قباء عند خياطٍ أعور، فلما أتاه به قال الخياط: "يا أبا معاذ هذا القباء لا تدري: أقباء هو أم دُوَاج؟ فقال بشار: لأقولنّ فيك بيتًا لا يدري سامعُه ألك دعوتُ أم عليك؟ وقال:

خَاطَ لِي عمرٌو قَبَا ... لَيْتَ عَينيهِ سَوَا

قُلْتُ بَيْتًا لَيْسَ يُدْرَى ... أَمَدِيحٌ أَمْ هِجَا؟ " (٣)

وإن التعمق في اكتناه خُلق بشار يُنبئ بأنه كان مضطربَ النزعة، جاريًا وراء ظِلال الدول والمذاهب، لا قرارَ له في شيء من ذلك، سعيًا وراء منفعته ووجاهته. ولم يكن ذلك بالذي يهز المتقلدين للشوكة والدولة، لعلمهم بأنه ليس مِمَّنْ يُخشى


(١) هو أبو الشمقمق مروان بن محمد، ولد سنة ١١٢/ ٧٣٠ وتوُفِّيَ سنة ٢٠٠/ ٨١٥. شاعر هجاء، بخاري الأصل، من موالي بني أمية. عاصر شعراء عدة وهجاهم، كبشار بن برد وأبي العتاهية وأبي نواس ومروان بن أبي حفصة وحماد عجرد. لقب بأبي الشمقمق لطوله، كان عظيم الأنف قبيح المنظر. عاش أبو الشمقمق في البصرة، وزار بغداد في أول خلافة هارون الرشيد.
(٢) الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج ٣، ص ١٩٤ - ١٩٥ (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج ١/ ٣، ص ٦٨١ (نشرة الحسين). الأصفهاني: محاضرات الأدباء، ج ٢، ص ٧٦٦.
(٣) ديوان بشار بن برد، ج ٢/ ٤ (الملحقات) ص ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>