للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما أكسبتْه الحضارةُ من دقة معاني المعارف والحكمة وعظمة الدولة ورقة الغرام والمجون. وإذا كان المتأخرون عنه - مثل أبي نواس وأبي تمام والبحتري - قد شاركوه في هذه الرقة ونسجوا على منواله، فإنهم لم يَسْعَدوا بما سعِد به بشارٌ من النشأة في الفصاحة والبلاغة الخالصتين. وإذا كان معاصروه - مثلُ صالح بن عبد القدوس وحمّاد عجرد وأبي العتاهية من شعراء الحضر - قد شاركه بعضُهم في المعاني الحضرية وبعضُهم في المعارف العقلية، فإنهم لم يتفق لأحدٍ منهم أن ينال مثلَ حظ بشار في نشأته العربية البدوية.

إذا عددتَ من معاصريه ومَنْ تقدمه قليلًا من شعراء البادية أمثالِ رُؤْبَةَ وذي الرمَّة وأمثال الفرزدق وجرير، لم تجد في شعرهم ما تجد في شعر بشار من دقّة المعاني ولا من رقّة الألفاظ. وهذا سر اللقب الذي منحه أئمةُ الأدب بشارًا - وهو أن سموه "أول المُحْدَثين وآخر المتقدمين" - الذي انْبَهَم توجيهُه على الأدباء. ألا ترى أنهم لا يعنُون بذلك تاريخ وجوده ضرورة أنه لم يوجد منفردًا في عصره، وإنَّما عَنَوا ديباجةَ شعره وطريقته! فمعاصروه يلحق بعضُهم بالمحدَثين مثل صالح بن عبد القدوس، وبعضُهم بالمتقدمين مثل رؤبة وذي الرمّة.

فصاحةُ ألفاظ بشارٍ بلغت الحدَّ الأقصى؛ فإنك لا تجد في ألفاظه ثِقلًا ولا تنافرًا ولا كُلفة. وصراحةُ دلالة ألفاظه على المعاني بينةٌ واضحة، ترى فيها كيف يخطر له المعنى الجليل والدقيق والعامّي، فلا يتريث في التعبير عنه بأفصح الألفاظ دون استعانة بزيادة أو حذف، بحيث تلوح لك الفصاحةُ العربية برُوائها والانسجام المولَّد ببهائه، كقوله (في الورقة ٤٢):

مَا زِلْتُ أَذْكُرُكُمْ وَليْلَتَكُمْ ... حَتَّى جَفَا عَنْ مَضْجَعِي جَنْبِي


= إسماعيل المخزومي، وكان ينسب بها ليفضح ابنها لا لمحبةٍ كانت بينهما؛ فكان ذلك سبب حبس محمد إياه وضربه له، حتى مات في السجن". كتاب الأغاني، ج ١، ص ٣٨٣ - ٣٨٥ (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج ١/ ١، ص ٢٤٥ - ٢٤٦ (نشرة الحسين).

<<  <  ج: ص:  >  >>