للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شربنا، وشبَه تلذذَ تلك الليلة بشرب الخمر، وشبّه خلوّ الليلة من المغنيات بصفاء الخمر، وقوله: "صفو ليلتنا" من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: ليلتنا الصفو، أي: الصافية، ففي هذا المصراع أربع استعارات: مصرّحة، ومكنية، ومصرّحتان بُنيتا على المكنية.

ومن أبدع الإبداع في صناعة البلاغة قوله (في الورقة ١٥٧):

لَا تَفْرَحِي بِالجَلَبِ الأَشَدِّ ... قَدْ يُخرج الليثَ سهامُ الوُغْدِ (١)

إذ شبّه حال عبد القيس في إقدامهم على حرْب عُقبة بالمقامر، وجعل خيبتَهم في الحرب كخروج السهم الوغد لمقامر، وجعل عقبة كأسد في الاغتيال، وجعل بأسه كإخراج الأسد أنيابه، وجعل الأنياب المحازية كالسهام لكنها أوغاد تنذر بالشر لمن خرجت له. فجمع في مصراع واحد: مُكنيةً، ومصرِّحةً مرشِّحة وترشيحُها مكنيةٌ أخرى، وأعقبها بمصرّحة، وتلك المصرحة فيها احتراس بديعي، ومجموع ذلك استعارة تمثيلية، أجزاؤها استعارات، مع نهاية الإيجاز.

وأما تفننه في الأغراض الشعرية فقد سلك فيه طرائق ابتكرها، منها افتتاح الهجاء بالنسيب، وقد كان العرب يفتتحون المديح بالنسيب، مثل قصائد زهير والأعشى والنابغة وعلقمة الفحل، وتعدد الأغراض في القصيدة الواحدة كثير في شعر بشار، سئل أبو عمرو ابن العلاء: مَنْ أبدع الناس بيتًا؟ فقال الذي يقول:

لَمْ يَطُلْ لَيْلي وَلَكنْ لَمْ أنَمْ ... وَنَفَى عَنِّي الكَرَى طَيْفٌ أَلَمْ

رَوِّحِي عَنِّي قَلِيلًا وَاعْلَمِي ... أَنَّنِي يَا عَبْدَ مِنْ لَحْم ودَمْ (٢)


(١) البيت من أرجوزة بشار "يا طلل الحي"، وانظر تعليق المصنف على البيت وشرحه لألفاظه: ديوان بشار بن برد، ج ١/ ٢، ص ١٧٠ (الحاشيتان رقم ٣ و ٤).
(٢) وقد روى الأصفهاني البيت الثاني على نحوين، ما ذكره المصنف هنا، والثاني:
نَفِّسِي يَا عَبْدَ عَنِّي وَاعْلَمِي ... أَنَّنِي يَا عَبْدَ مِنْ لَحْمٍ ودَمْ
وقد أثبته المصنف في الديوان بهذا اللفظ، والبيتان من مقطوعة من خمسة أبيات غناها إبراهيم الموصلي. كتاب الأغاني، ج ٣، ص ١٥١ (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج ١/ ٣، ص ٦٥١؛ ديوان بشار بن برد، ج ٢/ ٤، ص ١٨٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>